التفسير الاقتصادي لميزانية 2009

الزيادة الكبيرة في الإنفاق التقديري في ميزانية المملكة لعام 2009 مقارنة بالإنفاق المقدر في ميزانية 2008 تشير إلى أن الإنفاق الحكومي الفعلي سيزيد خلال عام 2009 مقارنة بمعدلاته عام 2008. أي أن المملكة انتهجت سياسة مالية توسعية في ظل تراجع إيراداتنا النفطية، وهو عكس ما جرت العادة عليه في الدول النامية المعتمدة على تصدير السلع الأولية، كالنفط مثلا، حيث يزيد إنفاقها العام في وقت نمو إيراداتها وينخفض بحدة تراجع إيراداتها نفسها عند انخفاض أسعار صادراتها الأولية في الأسواق العالمية، وهو ما يتسبب في تذبذب حاد في النشاط الاقتصادي في الدول النامية.
السياسات المالية في الدول النامية تختلف تماماً عن السياسات المالية في الدول المتقدمة الصناعية، حيث إن الدول المتقدمة تستطيع أن تنتهج سياسية مالية توسعية تعويضية عند حدوث تراجع في الطلب الكلي من خلال زيادة الإنفاق الحكومي أو إجراء تخفيضات ضريبية ما يحفز الاقتصاد ويحد من حدة الركود الاقتصادي، أما الدول النامية وبسبب طبيعة الدورات الاقتصادية فيها، وكونها في الغالب غير مرتبطة بقصور الطلب الكلي محليا وإنما مرتبطة بتراجع أسعار منتجاتها الأولية في السوق العالمية، فإنها لا تستطيع أن تعوض التراجع في قيمة صادراتها الأولية من خلال زيادة الطلب الكلي في الاقتصاد، فكل ما سيترتب على مثل ذلك زيادة في الواردات وتأثير سلبي في ميزان مدفوعاتها الذي يعاني أصلا من تأثير تراجع قيمة صادراتها.
إذاً، ما الذي مكن المملكة من اتباع سياسة مالية توسعية في الوقت الذي يملي واقعها الاقتصادي سياسة مالية تقشفية يتراجع بموجبها إنفاقها العام؟!. هذا يعود إلى أن الارتفاع المتواصل في إيراداتنا النفطية خلال السنوات الخمس الماضية أتاح للمملكة تسدد دينها العام وبناء احتياطيات مالية ضخمة أصبحت معه الآن قادرة على أن تحافظ على مستويات مرتفعة من الإنفاق الحكومي، وبالتالي الحد من تذبذب النشاط الاقتصادي الذي كان سينتج لا محالة عن أي تخفيض يتعرض له الإنفاق الحكومي، باعتبار أنها تستطيع الآن تغطية أي عجز في إيراداتها النفطية من خلال استهلاك جزء من احتياطياتها المالية التي تمكنت من بنائها خلال سنوات الطفرة. ولو أن المملكة قامت بإنفاق كل إيراداتها النفطية خلال السنوات القليلة الماضية ولم تراع بناء فوائض مالية، لما استطاعت الآن أن تحافظ على إنفاقها العام الحالي ناهيك أن تقوم بزيادته، وسيكون الخيار الوحيد في هذه الحالة اتخاذ إجراءات تقشفية تجنباً لاستنزاف رصيد البلاد من النقد الأجنبي وتفادياً للاقتراض محليا أو خارجيا، وبالتالي عودة سنوات نمو الدين العام وإثقال كاهل الميزانية بخدمة الدين المتنامي.
إن السياسة المالية المناسبة في دولة نامية، والتي تحقق أعلى معدل ممكن من الاستقرار الاقتصادي، هو أن تكون الحكومة قادرة على مقاومة إغراء زيادة الإنفاق بقدر زيادة الإيرادات عندما يكون هناك نمواً في هذه الإيرادات، بالتالي لا تضطر إلى تخفيض الإنفاق العام بحدة انخفاض الإيرادات نفسها عندما يكون هناك تراجع في هذه الإيرادات. أي أن سياسة مالية ناجحة في دولة نامية منتجة للموارد الأولية هي تلك التي يتم فيها توزيع إيرادات الصادرات بطريقة متوازنة على مدى أطول، وبالتالي تفادي الإخلال بالنشاط الاقتصادي الذي سيكون ضرورياً دون ذلك. وهذه القدرة على مقاومة إغراء نمو الإنفاق وقت نمو الإيرادات يجب أن يكون ضمن سياسة مالية متسقة تهدف إلى استخدام الإيرادات الإضافية في تخفيض الدين العام وبناء احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي تحسباً لتراجع قيمة الصادرات مستقبلا.
فالدورات الاقتصادية في الدول النامية المنتجة للسلع الأولية تكون دوماً تابعة للتغيرات في الإنفاق الحكومي، لذا نجد أن الإنفاق الحكومي هو الذي قاد مراحل الانتعاش في الاقتصاد السعودي وهو الذي قاد مراحل الانكماش بتراجعه. فانخفاض عوائد تصدير النفط يؤدي إلى تخفيض الإيرادات الحكومية، والذي بدوره يتسبب في تخفيض الإنفاق الحكومي وفي أحيان كثيرة يدعم ذلك بزيادة الرسوم والضرائب في محاولة لإعادة التوازن بين الإيرادات الحكومية والإنفاق الحكومي، ما يؤدي إلى انكماش الناتج المحلي وتراجع النشاط الاقتصادي، أما عندما نقاوم إغراء زيادة الإنفاق بقدر زيادة الإيرادات ونبني فوائض مالية، فإننا نستطيع المحافظة على معدلات الإنفاق الحكومي مرتفعة حتى عندما تتراجع هذه الإيرادات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي