العصر الجديد لحوكمة الشركات

ظهر مفهوم حوكمة الشركات Corporate Governance للمساعدة في حل بعض المسائل المتعلقة بإدارة الشركات، علاقة المنشأة بالملاك Owners والمستفيدين Stakeholders، العلاقات ما بين الأطراف الداخلية والخارجية. وعليه فإن أحد الأهداف الرئيسة التي قام عليها مفهوم حوكمة الشركات هو ضمان العدالة والموضوعية في المعاملات بين الأطراف المشاركة في دورة الحياة الاقتصادية للشركات المساهمة، ولهذا فمن أكثر التعارف انتشارا هو تعريف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية the Organisation for Economic Co-operation and Development OECD المنشور عام 2004 وفيه "تمثل حوكمة الشركات مجموعة من العلاقات بين إدارة الشركة، ومجلس الإدارة ، والمساهمين، وأصحاب المصلحة الآخرين. حوكمة الشركات.. توفر الهيكل التنظيمي لتحقيق أهداف الشركة، وتساعد في مهمة تحقيق هذه الأهداف ومراقبة الأداء. إن المعايير المقبولة لحوكمة الشركات ينبغي أن توفر نظاما للحوافز المناسبة لمجلس الإدارة، وتتابع تحقيق الأهداف التي تعود بالفائدة على الشركة والمساهمين فيها كما ينبغي أن تسهم في بناء نظام رقابي فعال".
من أجل هذا فقد منح الكثير من الجهد لتحسين حوكمة الشركات، وقد حققت تحسناً ملحوظاً في أغلب الدول المتقدمة وتبعتها في السياق نفسه الكثير من الدول الناشئة لغرض المساهمة في خلق البيئة المناسبة للقطاع الخاص من أجل ضمان التطور والازدهار لاقتصادات تلك الدول. وقد واكب هذا التطور تطوراً ملموساً في كيفية إدارة الشركات المساهمة من خلال الفصل بين مهام رئيس مجلس الإدارة Chairman وبين واجبات ومهام المدير التنفيذي للشركة Chief Executive Officer CEO، كما تم التركيز على موضوع إدراج الأعضاء غير التنفيذيين Non-Executive Director لمجالس الإدارة، وتوسيع قاعدة المساهمين، ونتيجة لذلك فقد تحسنت بيئة الإفصاح وزادت الشفافية في التعامل مع مختلف مكونات السوق.
هذا التطور تم بتعاون كبير ما بين الجهات التشريعية والجهات التنفيذية مع القطاعات الأكاديمية المتخصصة، وذلك من خلال إنشاء اللجان المتخصصة ومراكز البحوث للمساهمة في دراسة المشكلات وإقرار الحلول المناسبة لها. هذه الدراسات والبحوث غالبا ما تنتهي بسن النظم المقننة لممارسات حوكمة الشركات. وفي الجدول التالي الذي قدمته McKinsey & Company في عام 2004 نرى الاهتمام الدولي بقضية سن القوانين المنظمة لممارسات حوكمة الشركات والتي غطت كثيرا من دول العالم خلال الفترة من بداية التسعينيات إلى عام 2004.

العام الدول التي سنت قوانين خاصة بحوكمة الشركات.
ما قبل عام 1997 استراليا، كندا، فرنسا، إيرلندا، نيوزيلندا، جنوب إفريقيا، إسبانيا، السويد، بريطانيا، أمريكا.
1997 فنلندا، اليابان، قيرغيزستان، هولندا، سريلانكا، تايلاند.
1998 بلجيكا، اليونان، ألمانيا، الهند.
1999 البرازيل، الصين، هونج كونج، ايطاليا، كينيا، ماليزيا، المكسيك، البرتغال، كوريا الجنوبية.
2000 الدنمارك، إندونيسيا، الفلبين، رومانيا، سنغافورة.
2001 الأرجنتين، التشيك، مالطا، البيرو.
2002 النمسا، تشيلي، كولمبيا، باكستان، بولندا، روسيا، سلوفاكيا، سويسرا.
2003/2004 قبرص، موريشيوس، عمان، تركيا، أوكرانيا.

هذا التطور قاد أيضاً إلى الدعوة بتطبيق مفاهيم حوكمة الشركات على القطاعات الحكومية والشركات العامة والمؤسسات غير الربحية من جمعيات خيرية وأندية رياضية ومستشفيات وقطاعات تعليمية وغيره.
تمثلت المبادئ العامة التي قامت عليها حوكمة الشركات والتي تعكس مفاهيم واهتمامات هذا العلم على:
1- حماية حقوق حملة الأسهم.
2- ضمان المعاملة العادلة للمساهمين.
3- توفير الحماية للأدوار التي يقوم بها أصحاب المصالح.
4- السعي لتحقيق الإفصاح والشفافية الكاملة.
5- ضمان تحقيق وعدالة مسؤوليات مجلس الإدارة.
وهذه المبادئ تجد قبولاً عاماً لدى الأوساط الأكاديمية والتنفيذية بسبب الاتفاق العام عليها بعد نشرها من قبل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD.

الاهتمام بتنظيم حوكمة الشركات عالمياً يوعز إلى الحاجة إلى وجود نظم وممارسات تنظم الاقتصاد المالي Financial Economy والذي يعتمد على المتاجرة في الأسهم والسندات بدلا من الاتجار في العمليات التقليدية لبيع السلع والخدمات. ونتيجة للحاجة إلى وجود متخصصين مؤهلين بالعلم والممارسة لإدارة الشركات القائمة نيابة عن الملاك وتوسيع قاعدة الملاك للاستفادة من رؤوس الأموال في تنمية الاقتصاد. كل هذه المسببات أدت إلى الاهتمام بتطوير وتحسين بيئات العمل من خلال حوكمة الشركات.
لهذا فقد حققت حوكمة الشركات خلال العقدين الماضيين الكثير من التطور والنجاح في مجالات مختلفة منها على سبيل المثال المساهمة في تقليل نسبة التضارب في المصالح ما بين الملاك والإدارة، الفصل بين مهام رئيس مجلس الإدارة والمدير التنفيذي، إضافة الأعضاء غير التنفيذيين في مجالس الإدارة للمساهمة في رسم السياسات الاستراتيجية والرقابة على التنفيذ لنشاطات الشركة، وفي مجال الإفصاح والشفافية فقد لعبت دوراً بارزاً في تحسين بيئات الإفصاح وتنظيم ونشر فكر الإفصاح التطوعي للقضاء على ما يعرف بالتباين المعلوماتي Information Asymmetry، والمساهمة في تحسين بيئة الإفصاح عن النشاط الاجتماعي والبيئي للشركات ومدى تأثيرها في البيئات التي تعمل فيها.
هنا يتبادر للذهن سؤال غاية في الأهمية وهو هل وصل العالم إلى درجة مقبولة في ممارسات ومفاهيم حوكمة الشركات؟
والجواب بالتأكيد لا, فهناك الكثير من مناطق الضعف التي ما زالت في حاجة إلى الدراسة والاستكشاف لإيجاد الحلول المناسبة لها. ولا نهمل هنا أن كل هذه القوانين والتنظيمات معرضة للاختراق والتجاوز، لأنها ما زالت في طور البناء والاختبار وهي تعمل في بيئة بشرية تتسم بالذكاء والمهنية بما قد يكشف الثغرات التي يستفيد منها البعض لفترة من الزمن. والأمثلة كثيرة على اختراق بعض القوانين والتلاعب بها لتحقيق مصالح خاصة. إضافة إلى ذلك فإن الفشل المالي الذي أصاب كثيرا من الشركات العالمية، إنما أصاب شركات تمارس وتطبق الوضع المثالي لمفاهيم حوكمة الشركات. وهذا يقودنا إلى أن حوكمة الشركات عالمياً ما زالت في طور البناء ولم تصل إلى الحد الذي يجعلنا نؤمن بأنها النظام الفاعل الذي يحمي الأطراف المتعاملة في هذه البيئة، والفشل أيضا يدل على أن هناك عناصر أخرى لم تعط حقها من الدراسة.
نتيجة للأزمة المالية العالمية Financial Crunch بدأت الأصوات تتعالى لتقليل الاعتماد على مفهوم الأسواق الحرة Free market مطالبين بدور أكبر للجهات التشريعية الحكومية في فرض الرقابة والتنظيم للحياة الاقتصادية. الجهات التشريعية هي المسؤولة عن إصدار القرارات والتنظيمات ذات العلاقة بإدارة وتشغيل الأسواق المالية في كل بلد بما يتفق والسياسات المتبعة. وهنا قد تبرز مجموعة من التساؤلات المهمة والتي لا حصر لها، ومنها على سبيل المثال:
1- هل الجهات التنظيمية التي تصدر القوانين، فعلاً لا توجد لها مصالح مباشرة من تأخير إصدار بعض القرارات؟
2- هل يراعى عامل التوقيت لتنفيذ وإقرار بعض القوانين؟
3- سرية المعلومات حتى تاريخ النشر، هل يتم التعامل معه بشكل آمن وسري؟
وغير ذلك كثير من التساؤلات التي قد تبرز للمهتم بهذا الشأن.
ولكن التساؤل الأكبر هو على من يقع هم حوكمة الجهات التنظيمية، وإلى متى يكون صغار المستثمرين هم الضحية لقرارات وممارسات خاطئة من الجهات التنظيمية التي قد تراعي كبار المساهمين على حساب صغارهم.
ونتيجة للمشكلات التي تم إدراجها سابقاً والتساؤلات المطروحة فإن مشروع تنظيم حوكمة الجهات التنظيمية قد يتحقق من خلال الاهتمام بالتالي:
1- توحيد المعايير المحاسبية عالمياً، وتطوير الجهات القائمة على مراقبة وتنظيم المعايير المحاسبية وفصلها كلياً عن أي جهة حكومية أو خاصة لتتمكن من أداء عملها بالشكل المأمول دون الرضوخ لبيروقراطية القطاعات العامة.
2- على الجهات المنظمة للسوق دور كبير في ضمان الشفافية وإصدار القوانين الرادعة لكل من يشكل خطرا على الأسواق المالية من مساهمين أو متعاملين. وكذلك القيام بتطوير الأنظمة الإلكترونية للتعامل ومواكبة الحاجة إلى هذا التطور.
3- البنوك المركزية يجب أن تتدخل في تنظيم الأسواق المالية وإبداء الرأي في كثير من المعايير المحاسبية المطبقة بما يمنع إصدار قرارات قد تؤدي إلى الإضرار بالأسواق وتقودها إلى مناطق الخطر.
4- الوزارات والإدارات الحكومية المختصة والتي يجب عليها أن تسهم وتواكب التطور الحاصل في الأسواق المالية، وتجاري هذا التطور بما يقلل الفارق الزمني بين إصدار القوانين وإعداد الدراسات لها. فبعض القوانين قد تأخذ وقتا طويلاً حتى تعتمد، ما يحرم الأسواق لفترات طويلة نسبياً معالجة وتصحيح الأوضاع.
5- الجامعات ومراكز البحث، دائما ما تكون المنتج الرئيس للأبحاث والدراسات المهتمة بالأساليب والممارسات التطويرية الجديدة. ولكنها في حاجة إلى الدعم المادي والمعنوي الدائمين كمحرك أساس.
وختاماً، هذه القراءة لواقع ممارسات حوكمة الشركات والتي آمل أن تكون نقطة البدء لتبني الدراسات والأبحاث من قبل الجهات المسؤولة أو من مراكز البحوث المتخصصة كمركز حوكمة الشركات التابع لجامعة الملك خالد والذي يقع على القائمين عليه دور كبير في تحريك المياه الراكدة في هذا المجال بمساعدة هيئة سوق المال والجهات المختصة وبدعم من الشركات والجهات المستفيدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي