تطوير التعليم في بلادنا.. أجهزة محمولة وعقول فارغة
كان من المفترض أن يكون مقال هذا الأسبوع امتدادنا لموضوع الأسبوع الماضي، إلا أن خبر توزيع 24 ألف جهاز حاسب آلي أصابني بالدهشة والذهول، فمشروع تطوير التعليم بدأ بخطوة جريئة كنا نتوقع أن يتريث فيها حتى تُستكمل دراسته وتتضح معالمه. مشروع تطوير التعليم الذي تشرف عليه وزارة التربية والتعليم الملقب بـ"تطوير" قام بتوزيع 24 ألف جهاز حاسب آلي لكل معلم ومعلمة ولكل طالب وطالبة مع ربط الأجهزة بشبكة الإنترنت العالمية محملا عليها جميع البرامج اللازمة لإتمام هذه المهمة التي لم يسبق لها مثيل. ويشرف البرنامج مباشرة على عدة مدارس تمثل عينة مختارة من جميع المناطق وليس لإدارات التربية والتعليم أي دور في ذلك، وهذا يعني أنه إذا نجح البرنامج سيجير للقائمين عليه وإن كان غير ذلك فتبعاته وسلبياته تتحملها وتعالجها إدارات التربية والتعليم في المناطق المعنية.
السؤال الذي لم نجد له إجابة حتى الآن هو: لماذا يسخر أبناؤنا كفئران تجارب لبرنامج لم يأخذ حقه من الدراسة المتأنية ودون الاطلاع على تجارب الشعوب الأخرى لمعرفة جدوى إدخال التقنية في التعليم بهذا الشكل المبالغ فيه؟ فحسب علمي أن الدول المتقدمة, وعلى رأسها أمريكا ودول أوروبا الغربية, لم تقدم التقنية في التعليم بهذا الإسهاب وبهذا الحجم، فما زال طلابها يتعلمون بالطريقة التقليدية ويستعان بالتقنية حسب الحاجة, بل إن كثيرا من المدارس في تلك الدول التي رأيتها مطلع الألفية الحالية لا يحمل كل معلم وكل طالب جهازا محمولا, كما يحدث لدينا, بل هناك معمل واحد فقط يخدم جميع الصفوف في أوقات متفرقة ومتباعدة من العام الدراسي، فهل تريد وزارة التربية والتعليم أن تقنعنا بأنها وصلت إلى مرحلة الريادة في التعليم تتفوق فيها حتى على دول المشرق والمغرب؟
يركز هذا البرنامج، الذي يصرف عليه تسعة مليارات ريال، على رؤية ضيقة تمثل التقنية حجر الزاوية في التعليم وكأن تطوير التعليم مرتبط فقط بالتقنية والحاسب وما في حكمها ويتحاشى عمدا أو جهلا تطوير الأدوات الأساسية والدعائم الجوهرية للعملية التعليمية, ومنها: تطوير مهارات الطلاب الفكرية والمعرفية والسلوكية، تطوير الجوانب التربوية والمعرفية للمعلم، تدريب وتنمية مديري المدارس، تطوير الإشراف التربوي، إكمال البنية التحتية للمدارس وإدارات التعليم فبعض المدارس في مدن رئيسة ما زالت تتوسل إلى أولياء الأمور، وتطلب منهم العون المادي لإنهاء مرافقها الأساسية التي لم تكتمل بعد من معامل، ومكيفات، ودورات المياه.
أين هذا البرنامج من تدريب المعلم وإعادة مكانته إلى سابق عهدها فقد أصبحت وظيفة المعلم من أوهن المهن بسبب تسلل الدخلاء على التعليم من غير جلدته وأصبحت وظيفة المعلم مهنة من لا مهنة له، فمن لم يجد ما يقتات به فما عليه سوى التوجه لقطاع التعليم لأنه مرتع لكل عاطل، وفاشل، ومتسيب.
حتى لا تختلط الأوراق، أقف هنا وقفة إجلال واحترام وتقدير للجهابذة والعظماء من أساتذتنا ومربينا الفضلاء فلهم منا كل حب وتقدير واحترام, فما صنيعهم معنا ومع أبنائنا إلا تاج نرفعه فوق رؤوسنا ونبراس نفاخر به أندادنا ومعروفهم محفوظ بين جوانحنا ومخطوط في قلوبنا، وما عملهم هذا إلا كالصدقة الجارية وكالعلم الذي ينتفع به. أنا لا أقصد هؤلاء الأفذاذ أبدا وإنما أعني فئة دخيلة على مهنة الرسل مرغوا رسالة التعليم في الوحل وأفقدوها بريقها وقدسيتها.
أعود إلى الموضوع وأقول: أين هذا البرنامج من تطوير مهارات الطلاب المعرفية وتهذيب سلوكياتهم وتنمية قدراتهم؟ هل التقنية ستمكن الطالب من إتقان أساسيات القراءة والكتابة؟ هل التقنية قادرة على إكساب الطالب أساسيات التفكير العلمي السليم؟ فما أراه وفقا لهذا البذخ في استجلاب التقنية أنه سيتشكل لدينا جيل يجيد استخدام الأجهزة الحاسوبية، ولكن بعقول فارغة ومهارات فكرية ومعرفية متواضعة. وسؤال آخر: هل نحن مدركون أننا مستخدمون للتقنية ولسنا بمنتجين لها، فماذا لو امتنعت شركات إنتاج التقنية حول العالم من تزويدنا بالأجهزة وبالخدمات الإلكترونية لأي سبب كان كارتفاع الجمارك أو زيادة تكاليف النقل أو الإفلاس أو الاحتكار أو غير ذلك؟ كيف سيتصرف القائمون على برنامج "تطوير" وماذا سيكون عليه مصير طلابنا وما يحملونه من أجهزة وعتاد؟
إن برنامجا كهذا يعد مؤشرا على تخبط وزارة التربية والتعليم وعدم وضوح رؤيتها، لذا أقترح على مسؤوليها إعادة النظر فيه وتحويل مخصصاته إلى استكمال البنية التحتية وتنمية قدرات الموارد البشرية من معلمين، ومديرين، ومشرفين، فهؤلاء هم المحرك والمطور الحقيقي للعملية التربوية. كما أن للوزارة عدة برامج أخرى على غرار برنامج "تطوير" تقوم بإثبات فشلها من عدمه على الطلاب، لذا ننادي الوزارة بالكف عن تجاربها تلك وإن آثرت الاستمرار فأقترح تغيير اسمها إلى وزارة "التجارب" كي نبحث عن مكان آخر يربي ويعلم أبناءنا وبناتنا، هذا والله من وراء القصد.