3 أرقام تلفت الانتباه

ثلاثة أرقام رئيسية تلفت الانتباه عند النظر إلى الميزانية التي أعلنت بالأمس: أولهما أن الإيرادات بالنسبة للعام المنتهي 2008 جاءت بأكبر مما كان مقدرا، إذ بلغت 1.1 تريليون دولار، بينما كانت عديد من الدراسات تضع رقما يقل عن ذلك بقرابة 200 مليار ريال.
أما الرقم الثاني فهو ذلك الخاص بنسبة التضخم التي وضعت في حدود 9.2 في المائة، ومع أن الرقم بمستواه هذا يعد عاليا بالنسبة لدولة عاشت أكثر من عقد من الزمان متمتعة بمعدلات تضخمية منخفضة، إلا أنه يظل أيضا أقل مما كان متوقعا بـ 1 في المائة على الأقل.
وهناك أيضا الرقم الثالث الخاص بحجم الدين العام، الذي تراجع من 250 مليار ريال إلى 237 مليارا، ليشكل نحو 18.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
تشكل هذه الأرقام مفتاحا للنظر إلى العام المقبل وإدارة الاقتصاد عبر الميزانية، فليس هناك شك في أن الجزء الأول من العام المقبل على الأقل سيكون وقتا صعبا، وذلك حتى تبدأ الإجراءات المتخذة على نطاق العالم لمواجهة الأزمة المالية تفعل فعلها، ويتبع ذلك أن تبدأ الإجراءات التي اتخذتها منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك" من خفض للإمدادات بحجم قياسي هو الأكبر في تاريخها في التأثير على سعر البرميل، الذي تشكل إيراداته نحو 90 في المائة من دخل الدولة، كما أوضح بيان وزارة المالية.
من هنا تنبع أهمية الأداء العام لميزانية العام الحالي، فالإيرادات العالية هذا العام حققت فائضا بلغ 590 مليار ريال، يمكن أن تغطي كل موازنة العام المقبل مع تحقيق فائض آخر في حدود 115 مليارا إذا تم النظر إلى الأرقام بتبسيط شديد. وهذا ما يفسر ما تردد من أن السعودية قادرة على مقابلة التزامات ميزانيتها للعام الجديد حتى إن لم تقم بتصدير برميل نفط واحد والحصول على إيراداته.
ثم إن معدل إيرادات هذا العام يرفع دخل الفرد إلى معدلات قياسية تقارب 20 ألف دولار، وهو ما يزيد بأكثر من أربعة آلاف دولار عن دخل الفرد العام الماضي، الأمر الذي يسهل إلى حد ما من مواجهة الأوقات الصعبة المتوقعة في النصف الأول من العام المقبل.
مع هذه الخلفية المريحة، يأتي الرقم الثاني الخاص بالتضخم الذي يتجه إلى أسفل. ومثلما كان ارتفاع حجم التضخم خلال العام المنقضي عامل قلق مستمر للمسؤولين والمواطنين، فإن استقرار نسبة التضخم عند رقم واحد وتراجعها المتوقع يعد من أفضل أخبار العام الجديد، إذ ستنعكس على مستوى المعيشة وتكلفة تنفيذ المشاريع. وكما أوضح بيان وزارة المالية والاقتصاد الوطني، فإن هناك مشاريع جديدة وأخرى إضافية بقيمة 225 مليار ريال تنتظر التنفيذ، ويمكن للمقاولين أن يستفيدوا من تراجع نسبة التضخم لتقليل تكلفة أعمالهم.
على أن الأزمة المالية العالمية ألقت بظلالها حتى على السوق المحلية، الأمر الذي يؤثر في عمليات الإقراض من قبل المصارف، التي تمثل تحديا بدأت مؤسسة النقد العربي السعودي "ساما" في مواجهته عبر بعض الإجراءات مثل خفض سعر الإقراض بين البنوك ووضع ضوابط أكثر لتغطية الحسابات الجارية.
أما الرقم الثالث الخاص بتراجع حجم الدين العام بالأرقام المطلقة وكنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، فيشير إلى الرحلة التي قطعها الاقتصاد السعودي من الوقت الذي كان فيه حجم الدين العام يتجاوز حجم الناتج المحلي الإجمالي في بداية هذا العقد، وحالة التعافي التي تم إنجازها خلال بعض سنوات فقط.
إلى جانب هذه الأرقام هناك أيضا حجم الإيرادات المتوقعة للعام المقبل، وهو الذي وضعته الميزانية في حدود 410 مليارات دولار، وهو أقل حجم للإيرادات منذ خمس سنوات عندما بلغت الإيرادات عام 2004 نحو 392 مليار ريال. كما يشير من ناحية أخرى إلى الأسلوب المتحفظ للغاية الذي تتبعه السعودية في تقدير سعر برميل النفط الذي تبيعه. وهذا الأسلوب يبدو ملائما في إطار المناخات التي تلف السوق النفطية في الوقت الحالي، حيث تزامنت أزمة مالية عالمية مع تراجع كبير في الطلب على النفط بسبب اتساع حالة الكساد الاقتصادي العالمي ووصوله إلى الصين التي يتوقع أن ينحدر نموها الاقتصادي إلى رقم واحد، بعد أن ظل متجاوزا 10 في المائة طوال أكثر من عقد من الزمان.
فتقديرات صندوق النقد الدولي أن النمو الاقتصادي العالمي سيتراجع إلى 2.2 في المائة العام المقبل من 3.7 في المائة هذا العام و5 في المائة العام الماضي. أما الصين فتتوقع أن تحقق نموا اقتصاديا العام المقبل في حدود 8.5 في المائة من 9.7 في المائة هذا العام، و11.9 في المائة عام 2007. أما أكبر وثاني أكبر مستهلك للنفط وهما الولايات المتحدة واليابان فيتوقعان تراجعا في نموهما الاقتصادي بنسبة 0.7 و0.2 في المائة على التوالي.
لهذا فإن الربع الأول من العام المقبل سيشهد في الغالب استمرار تراجع سعر البرميل ما لم يسجل الطقس برودة غير متوقعة تسهم في تقليص حجم المخزون الذي يغطي حاليا استهلاك 57 يوما، وهو ما يتجاوز معدل خمس سنوات بتوفر استهلاك فائض لخمسة أيام. من ناحية ثانية، فإن نهاية الربع الأول تعد الفترة التي تشهد اضمحلال الطلب تقليديا لأسباب الصيانة الدورية للمصافي، وإذا تحسن التزام الدول الأعضاء في "أوبك" بعمليات خفض الإنتاج التي قررتها من نسبة 60 في المائة الحالية إلى نحو 75 في المائة على الأقل، فإن سعر البرميل مرشح للاستقرار ومن ثم يضع قدمه على طريق الانطلاق نحو رقم 75 دولارا للبرميل الذي حددته السعودية على أنه سعر عادل. ويلاحظ هنا أنه رغم الأزمة المالية العالمية التي انعكست على السوق النفطية مباشرة، إلا أن سعر البرميل لم ينخفض إلى عشرة دولارات كما حدث من قبل، الأمر الذي يعطي شيئا من المصداقية للخطوات التي اتخذتها "أوبك" حتى الآن.
على أن الفترة التي سيظل فيها سعر البرميل منخفضا، فإنها ستمثل عامل طرد بالنسبة للمنتجين من خارج "أوبك" وبرامج الطاقة البديلة. وفي دراسة لرابطة كيمبردج لأبحاث الطاقة التي يترأسها الباحث المعروف دانييل يرجن، فإن السعر الملائم لاستخراج برميل نفط من المياه العميقة في غرب إفريقيا هو 70 دولارا، نفط الرمال الكندي 78 دولارا، والنفط الثقيل الفنزويلي 114 دولارا. لهذا يبدو سعر 75 دولارا للبرميل الذي أعلنت عنه السعودية ملائما لمستقبل الصناعة، كما أن المعدل المتدني للإيرادات يرسل إشارة، ولو بصورة غير مباشرة، على عزم السعودية قيادة عمليات خفض الإنتاج دعما للأسعار، وبالتالي فهي على طريق رؤية إنتاجها يراوح بين ثمانية وتسعة ملايين برميل وفق حاجة السوق.
لهذا فإن العام المقبل سيمثل نقطة مركزية في ارتباط السعودية بالسوق العالمية سواء لجهة الطلب على النفط، أو تأثيرات الأزمة المالية العالمية وكيفية التعاطي معها لتجاوزها بما يحسن من المناخ الاقتصادي العام. وكان البنك السعودي البريطاني قد أجرى استبيانا لبعض مؤسسات ورجال الأعمال خلصوا فيه إلى أنهم يتوقعون نموا اقتصاديا في الربعين الأول والثاني من العام المقبل، وذلك بسبب الانطلاق من نقطة قوية من الأداء الاقتصادي الجيد للعام الحالي المنتهي، الأمر الذي يمكن أن يسهل إلى حد ما من السباحة في مياه العام المقبل الهائجة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي