الاحتفال بالهزيمة

في مقابلة تلفزيونية أجرتها محطة ABC مع الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جورج بوش ذكر أنه ترك لخلفه الرئيس المنتخب باراك أوباما الشرق الأوسط وهو في وضع أفضل, وأكثر أمناً. كما أشار في المقابلة نفسها أنه بعد انتهاء ولايته سيقضي وقتاً للراحة مع أسرته في مدينة هيوستن, وفي المنزل الفخم الذي اشتراه أخيرا, كما أنه ينوي كتابة كتاب يدون فيه مذكراته, خاصة ما له علاقة بالأحداث التي حدثت أثناء رئاسته, التي امتدت ثماني سنوات ذاق خلالها العراقيون, الأفغان, والأمريكيون الأمرين بسبب الحروب الطاحنة التي شنتها الولايات المتحدة على هذين البلدين, وبتحريك وتوجيه من مشاعر عدائية تحملها الإدارة الأمريكية المنتهية ولايتها نحو العرب والمسلمين, رغم المحاولات المستميتة لنفي هذه الحقيقة من قبل المسؤولين الأمريكيين لكن الأفعال أبلغ من الكلام. وما سعي الرئيس بوش لإثبات وتصوير أن ما قام به من حرب أكلت الأخضر واليابس, وأهلكت كثيرا من الناس, الذين تقدر أعدادهم بالملايين, إنما كان ضرورياً لأمن أمريكا والسلام العالمي, وكذا لتحقيق آمال وطموحات العراقيين في تحقيق الحرية والديمقراطية إلا نزعة دفاعية لا يؤمن بها أحد حتى الأمريكيون أنفسهم. ومع أن الحرب مضت عليها ست سنوات من القتل, التدمير, التهجير, وفقدان أبسط مقومات الحياة للعراقيين, وكذا للأفغان, إلا أن بوش يصر على تكرار هذه المقولات التي لم يعد أحد يصدقه بشأنها حتى الشعب الأمريكي سئم هذه المقولات الممجوجة وأدرك أن ما يردد عليه منذ ست سنوات لا يعدو أن يكون هراءً لا يليق بأبسط إنسان أن يقوله, ولو لمرة واحدة, فكيف برئيس الدولة العظمى في العالم, وهو يكرر هذا الشيء في مناسبة ومن دون مناسبة. في زيارة مفاجئة إلى بغداد قدم بوش بهدف التوقيع على الاتفاقية الأمنية مع العراق, والغريب أن زيارات بوش بما فيها الزيارة الأخيرة تتم بشكل سري, ولا يعلن عنها إلا بعد وصوله, وفي هذا دلالة تسقط ما يفتخر بوش بأنه حققه بحربه على العراق, فالحرية والديمقراطية التي يفتخر بوش بها يفترض أن يسبقها الأمن, وهو ما لم يتحقق, بل هذا ما فقده العراقيون بمجيء القوات الأمريكية إلى بلادهم. لقد عبر الرئيس بوش عن سعادته بعودته للعراق بهدف الاحتفال مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بتوقيع الاتفاقية, وفي هذه العبارة التي صدرت من بوش دلالة على الإفلاس النفسي والاجتماعي والتاريخي الذي حققه طرفا المعادلة في هذه الاتفاقية, العراقيون الذين جاءوا على ظهر الدبابة الأمريكية, وأسهموا في تدمير وطنهم, وقتل الناس الأبرياء, ولم يقدموا إلا ما قدمه بوش من وعود كاذبة ذهبت أدراج الرياح, كما ذهبت أحلام بوش الذي كان يحلم بدخول التاريخ العالمي من أوسع أبوابه. فالعراق فقد حريته, ومقومات الحياة من كهرباء, ومدارس, ومستشفيات, وبنى تحتية, إضافة إلى فقدان الأمن, والاستقرار, وفقدان هويته العربية. أما بوش فقد أدخل أمريكا في نفق مظلم حين اتخذ سياسة الحروب وسيلة للانتقام من الشعوب المسالمة بحجة الحفاظ على أمن أمريكا, والسلام العالمي. الرئيس بوش يترك البيت الأبيض وأمريكا في أسوأ أوضاعها حيث البطالة المتزايدة, والأسر المشردة من بيوتها, التي سحبت من قبل البنوك والشركات الممولة بعدما عجز أصحابها عن سداد أقساطها, كما أن الأزمة المالية مثلت أقوى الضربات التي تعرض لها الشعب الأمريكي في حقبة بوش. الاتفاقية من وجهة نظر بوش فرصة أتاحت له العودة إلى العراق, هذه العودة التي تتم بسرية تامة, كما أنه سعيد بأنه يترك للرئيس المنتخب أساسات ثابتة ومقاربة بإمكانها نيل مزيد من التأييد في أمريكا, إذاً بوش أدرك أخيرا موقف الشعب الأمريكي من الحرب التي اعترف هو بأنها خطأ حدث بفعل معلومات C I A الخاطئة بهذه البساطة, أو التسطيح تكون الحروب, وبهذا تبرر أمام الرأي العام العالمي, والمحلي الأمريكي. الجميع يتذكر الصورة التي جمعت بوش بعبد الستار أبو الريش رئيس مجلس صحوة الأنبار 2006 وهو يقف معه بجانب الطائرة التي أقلته إلى الرمادي باحثاً لديه عن سند يضمن لقواته الصمود, وعدم الانهيار, وهو ما حدث فعلاً حيث أنقذت الصحوات الموقف الأمريكي وجعلت الوضع يستمر دون رحيل مسبق حتى تأتي الإدارة الأمريكية الجديدة, وتقرر ما تراه مناسباً لمصلحة أمريكا التي ما أن تسلم بوش رئاستها إلا وهي في مآزق لا تعد ولا تحصى, وستستمر آثار هذه السياسات تلاحق الشعب الأمريكي في المجالات كافة, إضافة إلى ما لحق بسمعة أمريكا ومصداقيتها على الصعيد العالمي. تأملت منظر الرئيس بوش وهو يتلقى الأحذية من الصحافي العراقي منتظر الزيدي, والخاتمة التي لا أعتقد أن بوش, أو أي أحد يتوقعها, فمهابة رئيس أعظم دولة أصبحت في الحضيض, وهذا الأمر ينسحب على بلاده أيضاً, لقد حاول بوش أن يبرر ما حدث من خلال السخرية وتهوين الموقف حين تحدث عن مقاس الحذاء, وحين قال إن الصحافي فعل ما فعل كي يلفت الانتباه لنفسه, ولكي يوجد شيئاً تسألون بشأنه فهل حذف الحذاء أهم من توقيع الاتفاقية "الأمنية" التي طار الرئيس بوش آلاف الأميال بهدف الاحتفال بتوقيعها, وإشعار الشعب الأمريكي بأنه حقق شيئاً يذكر له؟ وأعتقد أن الاتفاقية سقطت بسقوط الحذاء بالقرب من بوش لأنه اعترف أنه لا توجد موضوعات تستحق السؤال عنها في هذا المؤتمر الصحافي الذي عقب التوقيع, لذا يكون الحذاء بديلا عن الاتفاقية كموضوع جذاب ويثير الاهتمام, وهذا هو ما حدث فعلاً. ولذا فالرئيس بوش احتفل بهزيمته التاريخية والأخلاقية والمعنوية. إن هذه الخاتمة في حق بوش تدل على قيمته ومنزلته في نفوس الشعب العراقي بل لدى الشعب الأمريكي الذي حول الموقف, وخلال 24 ساعة إلى لعبة يفرغ من خلالها الشعب الأمريكي وغيرهم من الشعوب الأخرى المشاعر الحقيقية التي يكنونها نحو فخامة الرئيس.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي