بوش: أراد أن يكون ختامه مسكا فكان شيئا آخر!

كان أشهر حذاءين في التاريخ العربي هما خفا حنين، والمثل العربي الذي يضرب بهما وهو "رجع بخفي حنين" يعود إلى أن إسكافيا من أهل الحيرة "يعني عراقي" اسمه حنين، ساومه أعرابي على خفين، ولم يشتر منه شيئا، فغاظه ذلك، وخرج إلى الطريق التي يعرف أن الأعرابي سيسلكها، فعلق أحد الخفين في شجرة على الطريق، وتقدم قليلا وطرح الآخر في الطريق واختفى بحيث لا يراه الأعرابي، فجاء الأعرابي ورأى أحد الخفين معلقا في الشجرة، فقال في نفسه ما أشبهه بخفي حنين، ولو كان معه الآخر لأخذته، ومضى في طريقه فرأى الخف الآخر، فنزل وعقل بعيره وأخذه، ورجع ليأخذ الأول فخرج حنين وعمد إلى راحلته وأخذها بما عليها، ولما رجع الأعرابي لم يجد راحلته، فرجع إلى قومه بالخفين، ولما سألوه ماذا جئت به من سفرك؟!، قال لهم جئتكم بخفي حنين.
وهناك بعض الشبه بين هذا المثل وبين ما حدث يوم 14 كانون الأول (ديسمبر) الجاري، عندما صوّب منتظر الزيدي حذاءيه إلى وجه الرئيس الأمريكي، بيد أن بوش لم يرجع بالخفين كما فعل الأعرابي، بل اكتفى بتفحصهما ومعرفة مقاسهما، وربما يكون لهذين الحذاءين شأن أكبر إذا احتفظ بهما العراقيون، عندما تتغير الأوضاع، ويصفو الجو من دخان سجائر الجنود الأمريكيين، ويقام للحذاء نصب على المنصة ذاتها التي صلب عليها تمثال صدام، وداسته الأحذية من مختلف المقاسات!، إذ لم يكن أحد يظن أنه سيأتي يوم يجرؤ فيه أحد على مواجهة صدام، حتى بالكلام، فإذا برموزه "تماثيله" من الأصنام تدوسها الأقدام، لتحيلها إلى حطام.
صحيح أن الزمن دوار، أو كما يقال غدار، انظروا كيف تدور الدوائر، وينقلب السحر على الساحر، ويصدق عليهم جميعا قول الشاعر:
وما من يدٍ إلا يد الله فوقها
ولا ظالمٍ إلى سيبلى بأظلم
عندما قام عبد الكريم قاسم بانقلابه الدموي، وفتك بالأطفال الأبرياء، قبل النساء العفيفات، لم يمهله الزمن طويلا، وجاءه من هو أظلم منه وهو صدام، الذي صار القتل عنده متعة كمتعة مسكته للغليون، وفي أوج طغيانه وتهديده لجيرانه، جاءته أكبر قوة على وجه الأرض، فلم يجد غير الجحور يحتمي بها تاركا حياة، القصور، إلى أن فتكت به في يوم عيد النحر، وظنت هي أن الخطر قد زال فأوحى لها ذلك بالاحتلال ولم تدر أنها بداية الزلزال، الذي حول الأرض إلى أوحال، وها هي الآن تتمنى الخروج من الطين ولو حتى بخفي حنين "خفي الزيدي"، وصدق عليها قول الشاعر:
دخول المرء في الشبكات سهل
ولكن التفكر في الخروج
بتأملي في الوضع كله خرجت بأمور وانطباعات، لا تخلو من العبر والعظات:
1. لو أن صدام تفادى الحرب وهو يعلم أنها قادمة لا محالة بالاستماع إلى نصيحة الشيخ زايد آل نهيان، وآثر السلامة بالخروج، لضمن بقية حياته في سلام، ولكفى الشعب العراقي ما واجهه من دمار وآلام، أو لو أنه على الأقل عندما أحس بأن الروح تبلغ الحلقوم عندما أخذت القوات في القدوم، وأوشكت على الدخول وانصرف هو إلى التمثيل على العقول، لو أنه استخدم شيئا من شجاعة العراقيين، التي تبين أنه لا يملك منها شيئا، وضحى بنفسه قبل أن يُضحى به، لمحا كل تاريخه الأسود، وأصبح حتى في نظر أعدائه من الأبطال!، لو حدث شيء من ذلك لما انتهينا إلى ما نحن فيه الآن.
2. لم يحدث في العالم حادثة شاهدها واهتم بها كل سكان الأرض كحادثة حذاءي الزيدي، حتى حادثة 11 أيلول (سبتمبر) لم ينشغل بها العالم كله، حتى الأطفال حولوها إلى لعبة للتسلية، والمتأمل يجد أنها ليست مجرد قذف حذاء، بل إن الزيدي كان بارعا في التصويب بقوة، والحذاءان كانا متجهين إلى وجه الرئيس، لولا أنه كان بارعا في المراوغة، كما هي حاله في السياسة، والغريب أن مراوغته جعلت الحذاءين يتجهان إلى العَلَم من خلفه فيصيبانه، وهي إهانة لا تقل عن الإهانة المقصودة.
3. الغريب الآخر، هو ما يقال عن قوات الحماية السرية للرئيس، في تأهيلها وكفاءتها وسرعتها، فقد أصيبت بالذهول والشلل في بداية الأمر، ولم تقم بأي رد فعل سريع لحماية شخص الرئيس، وعندما صحت من صدمة المفاجأة حاولت تغطية فشلها بإظهار القوة في الفتك بالزيدي وضربه بالأيدي والأحذية، وسحبه من شعر رأسه، وكل هذا موثق بالعدسات، وتم على مرأى ممن حضر، بمن فيهم رئيس الوزراء العراقي ذاته، في حين أن اللحظة ليست لحظة انتقام وإظهار للشجاعة، وكان يكفي، بل يجب الإمساك به، فهو ليس مسلحا، وحتى حذاءيه اللذين يمكن أن يخشى منهما الحراس ليسا معه، والغريب أن كلا من وسائل الإعلام والمحامين الذين تطوعوا للدفاع عنه لم يثيروا ذلك، لأن كل القوانين تمنع تعجيل العقوبة للمتهم قبل ثبوت التهمة، لكنها العدالة التي تغتال أمام من يدعيها.
4. مهما قيل، حتى ممن انتقدوا الحادثة، فإنها ستبقى رمزا للتعبير عن الشعور بالظلم والإهانة، وتجسيدا لمشاعر الغالبية من شعوب العالم، بما فيها الشعب الأمريكي ذاته، كما عبرت عنه المظاهرات قرب البيت الأبيض، إزاء ما نالهم من الأذى ماديا ومعنويا ونفسيا، بسبب السياسة الأمريكية، وسيبقى حذاء الزيدي كأشهر الأحذية في التأريخ، يتضاءل أمامهما أحذية البشير وخروتشوف، وحتى حنين.
والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي