قد يعود التضخم
إحدى إيجابيات أزمة المال العالمية تسببها في ثقب فقاعة أسعار السلع الأساسية في الأسواق العالمية ما تسبب في تراجع معدلات التضخم عالمياً مع توقع دخول الاقتصاد العالمي في مرحلة انكماش اقتصادي سيترتب عليه لا محالة تراجع في الطلب العالمي على مختلف السلع والخدمات وبالتالي مزيد من الضغط على أسعارها وإلى أن تظهر بوادر على تعافي الاقتصاد العالمي وبدء تحقيقه معدلات نمو إيجابية.
إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه هو هل هذا السيناريو، أي تراجع معدلات التضخم، هو المسار الوحيد المتوقع لمعدلات التضخم العالمية، وهل يعني ذلك أننا تجاوزنا مشكلة التضخم محلياً وأن بإمكان المستهلكين والمستثمرين في المملكة أن يتنفسوا الصعداء ويطمئنوا أن معدلات التضخم ستواصل التراجع خلال المرحلة المقبلة؟. الإجابة عن هذا السؤال هي على الأرجح لا، فمعدلات التضخم المحلية قد تكون في الواقع مرشحة لمعاودة ارتفاعها من جديد بعد فترة قد لا تطول كثيرا، نتيجة استمرار ارتباط الريال بالدولار الذي يتوقع تراجعه بقوة أمام العملات الرئيسة في العالم، حيث سيترتب على هذا التراجع في سعر صرف الدولار ارتفاع في القيمة الاسمية لأسعار مختلف السلع والخدمات عند تسعيرها بالدولار، واعتمادنا شبه الكامل على السلع المستوردة يعني ارتفاعاً في معدلات التضخم المحلية نتيجة لذلك.
مصلحة الاقتصاد الأمريكي وكما أشرت في مقالات سابقة تخدم بقوة من خلال دولار ضعيف يسهم في إخراجه من هذه الأزمة التي تزداد تفاقماً يوماً بعد آخر، وقرار البنك الاحتياطي الفيدرالي يوم الثلاثاء الماضي بتخفيض سعر الفائدة الأساسي "سعر التمويل الفيدرالي" من 1 في المائة إلى نطاق بين صفر و0.25 في المائة، الذي أصبح بموجبه سعر الفائدة على الدولار الأقل بين العملات الرئيسة في العالم، وتأكيد البنك الاحتياطي الفيدرالي أنه يفكر في إعادة شراء بعض سندات الخزانة الأمريكية طويلة الأجل بهدف ضخ مزيد من السيولة في النظام المالي، كلها تظهر بما لا يدع أي مجال للشك أن استراتيجية البنك الفيدرالي تستهدف أيضا مزيدا من الضغط على الدولار الأمريكي وتظهر قلقا متزايدا من مشكلة تراجع الأسعار في الولايات المتحدة أو الـ Deflation، خاصة في ضوء التراجعات الحادة في مؤشر أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة المنخفض خلال تشرين الثاني (نوفمبر) بنسبة 1.7 في المائة، وهي أعلى نسبة تراجع يحققها هذا المؤشر في تاريخه. يعزز من ذلك ما يعرف عن الرئيس الحالي للبنك الاحتياطي الفيدرالي بن برنانكي من قلق وتخوف من تراجع الأسعار في أوقات الانكماش الاقتصادي، فهو يرى أن ذلك يتسبب في تحول الانكماش إلى كساد اقتصادي، لذا فهو يؤمن بضرورة محاربة ذلك بكل وسيلة ممكنة، بما في ذلك ضخ كم هائل من السيولة في الاقتصاد وليس فقط تخفيض معدلات الفائدة، حتى ولو تطلب تشجيع المستهلكين على معاودة الشراء ووقف تراجعات الأسعار إسقاط لفائف نقود عليهم من طائرة هليكوبتر كما جاء في خطاب له ألقاه عام 2002. وبالتالي فإن البنك الاحتياطي الفيدرالي من خلال هذا التخفيض في أسعار الفائدة وضخ هذا الكم الهائل من السيولة في النظام المالي يأمل في أن يحفز الطلب الكلي وبالتالي يحد من تراجع مستويات الأسعار في الولايات المتحدة، وأن ينجح في مواجهة المستثمرين في العالم الذي تسبب هلعهم وهروبهم إلى سندات الخزانة الأمريكية في ارتفاع سعر صرف الدولار خلال الأشهر الثلاثة الماضية بصورة لا تخدم أهداف السياسة النقدية الأمريكية الساعية لانتشال الاقتصاد الأمريكي من حالة الانكماش من خلال زيادة الطلب على الصادرات الأمريكية.
ما الذي يعنيه كل ذلك بالنسبة للمستهلك والمستثمر محليا وما أفضل السبل المتاحة له للحد من آثار التضخم القادم على المدخرات ومستويات المعيشة؟ إن إحدى أهم وسائل الحد من تأثير التضخم المقبل هي استغلال المرحلة الحالية التي تراجعت فيها أسعار السلع الأساسية بمباشرة تنفيذ أي مشاريع سكنية أو إنشائية اتخذنا على المستوى الشخصي قراراً بتنفيذها لكننا لا ندري متى الوقت المناسب لذلك ونعتقد أن التأجيل أفضل في الوقت الحاضر، فالعكس هو الصحيح، والوقت المناسب لذلك هو الآن دون أدنى شك، حيث يمكن تنفيذها بتكاليف أقل من أي وقت مضى، وهي فرصة على الأرجح لن تتاح لنا مرة أخرى في حالة معاودة أسعار السلع العالمية ارتفاعها من جديد مع تراجع سعر صرف الدولار وتزايد معدلات التضخم عالميا.