أطروحات الأزمات الاقتصادية والعودة إلى المبادئ

ارتفعت موجة التشاؤم مدفوعة بتراجع مستويات الثقة بالاقتصاد العالمي مع نهاية العام الميلادي الحالي في الوقت الذي لم تنجح فيه السياسات النقدية التي اتبعها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنوك المركزية الغربية لحد الآن من التخفيف من أزمة السيولة والانقباض الائتماني. هذه السياسات النقدية تزامنت مع سياسات مالية مرنة تستهدف التحفيز الاقتصادي من خلال خفض الضرائب وزيادة الإنفاق الحكومي لتشجيع الاستهلاك الذي تراجعت مستوياته بشكل كبير في العام الماضي بجانب خطوات تشريعية وتنظيمية تستهدف تفادي الثغرات التي اتضحت في نموذج وول ستريت وقد تنهي المصرفية الاستثمارية بشكلها المعهود في الأعوام القليلة المقبلة. وعلى الرغم من حجم حزمة التحفيز الاقتصادي المعتمدة على السياستين النقدية والمالية التي تم اتباعها في الولايات المتحدة إلا أن الوحدات الاقتصادية والأسواق المالية لم تتجاوب معها لعدة أسباب جلها يدور حول مستويات الثقة بالأداء الاقتصادي للعام المقبل 2009 وتقديرات بطول فترة الركود وعمقه. وتعتمد فاعلية السياسات الاقتصادية على آفاق الاقتصاد المستقبلية لكون القرار الاقتصادي لمختلف الوحدات يبنى على التوقعات المستقبلية، حيث إن المستهلك يقرر حجم الاستهلاك والادخار والاستثمار بناء على توقعات التدفقات النقدية المستقبلية مخصومة بسعر فائدة محدد بينما تبني الوحدات الإنتاجية تقديراتها المستقبلية بناء على حجم الطلب المستقبلي وبالتالي يتحدد حجم الطلب على المدخلات التي تستخدم في الإنتاج في الفترة الحالية. بمعنى آخر، تحدد التوقعات المستقبلية للسوق حجم الاستهلاك الحالي لمدخلات الإنتاج بطريقة تجعل استهلاك اليوم محكوماً بطلب الغد كما كان طلب اليوم محدداً لاستهلاك الأمس.
ومنذ بدء ظهور مؤشرات الأزمة المالية العالمية في صيف 2007 كان هناك شبه اتفاق في الأوساط الاقتصادية على عمق الأزمة في الاقتصاد الأمريكي والاقتصاديات الغربية بينما كان هناك اختلاف في تأثيراتها في الاقتصاد العالمي ومستويات النمو. وكحال جميع الفقاعات والأزمات المالية السابقة، فإن لكل أزمة أطروحاتها وتبريراتها التي تحاول القفز على أساسيات الاقتصاد ونظرية النمو. فالأطروحة الأقوى التي كانت تقلل من أثر الأزمة المالية في نمو الاقتصاد العالمي تقترح انفصال النمو الاقتصادي للدول الناشئة كالصين والهند والبرازيل وروسيا (البريكس) عن نمو الاقتصادات الغربية وأن نمو هذه الاقتصادات الناشئة يحدث نوعا من التوازن في الاقتصاد العالمي بما يكفل تحقيق نمو بغض النظر عن تراجع النمو الاقتصادي في أمريكا وأوروبا. هذه الأطروحة تراجعت لصالح أطروحة ارتباط اقتصاديات العالم بعد أن كبرت كرة الثلج وألقت الأزمة بظلالها على الاقتصاديات الناشئة سريعة النمو في النصف الثاني من العام الحالي، حيث تأثر الاقتصاد الروسي بتراجع أسعار النفط والسلع الأولية وانهيار السوق المالية بينما تأثر نمو الاقتصادين الهندي والصيني سلباً نتيجة لتراجع الصادرات إلى الاقتصادات الغربية وتراجع حجم الاستثمار الأجنبي. المفارقة هنا أن درجة الارتباط هذه بين الاقتصاديات الغربية واقتصاديات دول البريكس تتفق مع نتائج الدراسات التي ظهرت في أواخر التسعينيات بنتائج تثبت ارتباط المؤشرات الاقتصادية الكلية للاقتصاديات الناشئة مع الاقتصاديات الغربية وخصوصاً الاقتصاد الأمريكي على المدى الطويل ولكنها تختلف مع الدراسات التي ظهرت في السنوات الخمس الماضية والتي تعتمد على سلاسل زمنية أقصر وأحدث.
خلاصة القول، سبقت انهيار الأسواق الآسيوية بعد تكون فقاعة الأصول والائتمان في دول جنوب شرق آسيا عام 1997 أطروحة كون الاقتصادات الآسيوية هي المحرك الجديد للنمو العالمي، وسبقت فقاعة الإنترنت والتكنولوجيا وانهيار أسواق المال في عام 2000 أطروحة الاقتصاد الجديد بنموه غير التضخمي واختلافه عن الاقتصاد القديم، وأخيراً سبقت انتشار الأزمة الاقتصادية العالمية أخيراً أطروحة انفصال نمو دول البريكس عن غيرها. ولكن، وبعد كل ذلك، فإن ما ثبت في النهاية هو أن الأساسيات الاقتصادية ومبادئ نظرية النمو هي الأقدر على تفسير تكون الفقاعة وتوصيف انتشار الأزمات ولو ظهرت أطروحات تبرر تكون فقاعات الأصول وتشجعها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي