الحذاء
والهزيع الأخير من ليل جورج دبليو بوش يلفظ أنفاسه الأخيرة، وعلى مرأى من عيون بلايين العالم، نزع الصحافي العراقي الشاب منتظر الزيدي (قندرته) وقذف بها وجه زعيم أكبر دولة ليدخل هذا الحذاء التاريخ من أفضح أبوابه!!
الحادثة فيض غيض إحساس فظيع بالظلم والقهر لفرد من شعب عظيم أنشبت فيه الغطرسة الأمريكية أظافرها وأنيابها ومزقته وطحنته ونهبته رغم أنف الضمير العالمي وتحت سمعه وبصره بل وتآمر وتكالب بعض أوروبا (المتحضرة) وتفويض الأمم المتحدة نفسها!!
لقد أثار حذاء منتظر الزيدي وسيثير الكثير من اللغط ولسوف تتجاذبه نوبات حماس معه ونوبات حماس مضادة أيضا. وسيهطل الكلم اللجوج بين من يدين منتظر في شقه عصا طاعة المهنة والخروج على عرف بروتوكولاتها، فيما سيجد فيه البسطاء، غير المنقوعين بالفلسفة والفذلكة تعبيراً عفويا لا يصمد معه منطق ولا عقلنة مثله مثل الانفجارات الشعبية التي تجور على الأملاك العامة والخاصة وترتكب أعمالاً طائشة في فورة غضب عارم كما يفعل الفتيان في اليونان اليوم وقبلهم في باريس وربيع براغ وشعبي روسيا ورومانيا ضد دبابات (الكي جي بي) و(شاوشسكو).
لم يكن منتظر الزيدي في وارد التحلي بالدماثة واللباقة أو الرصانة والحكمة وهو الذي شهد بأم عينه وأبيها ولمس بأصابع شغافه كيف أفلتت أمريكا سعار الحقد والخراب واللصوصية ضد تراث عراق بابل وسومر وحاضرة الرشيد وتجليات مجد حضاري يلمع في صدارته فجر الأبجدية الكونية وأولى الشرائع (حمورابي) وأدهش الملاحم (جلجاش) وأن وطنه الذي كان مقهوراً بطاغية أصبح مدحوراً بطغيان دولة غازية محتلة، لا يلعلع فيه إلا الرصاص ولا تفوح سوى روائح البارود والجثث المتفحمة!!
كان على اللباقة أن تترجل عن مكانها وعلى العرف أن يدير ظهره ويفسحان مكانهما لحذاء الزيدي ليدخل التاريخ ربما (أكثر) أسوة بغيره من الأحذية التي كانت قد دخلت قبله .. مع أن لكل واحد قصته ورمزيته.
حذاء جدنا (حنين) ترك لنا المثل المشهور (عاد بخفي حنين) مع أن جدنا (حنين) لم يعد بخفين لكنها السخرية الشعبية فجدنا (حنين) كان قد رأى في بعض الطريق فردة حذاء (خف) رفعه عن الأرض ثم رماه وهو يقول في نفسه: (لو كان معه آخر!!)، وما إن قطع شوطا طويلا من الطريق حتى عثر على الـ (خف) الآخر فتمنى لو أنه احتفظ بالأول وتساءل: هل أعود؟ لكنه حسم الأمر تحت احتمال: أن أحد المارة سوف يأخذه ثم أكمل طريقه بلا خفين فذهب ما حدث له مثلا يضرب عن الخيبة والخسارة.
قبل (حنين) دخل التاريخ حذاء جدنا (كليب) أبرز ضحايا حرب البسوس التي دامت أربعين عاما، فحين بلغ (المهلهل) مقتل أخيه (كليب) جن جنونه وتأهب للثأر وهو يتوعد قاتل أخيه: (بؤ بشسع نعل كليب) أي أن رباط حذاء كليب أعز من قاتله ثم سل سيفه وهو ينشد قصيدته التي منها هذا البيت الرهيب:
(ولست بخالع سيفي ودرعي إلى أن يخلع الليل النهار)
كما أن "قبقاب" شجرة الدر حذاء آخر دخل التاريخ حين هشمت به زوجة عز الدين أيبك وخدمها رأس (شجرة الدر) في مكيدة مدبرة للثأر منها لقتلها عز الدين في الحمام والاستئثار بالسلطة، ومنه استولد أشقاؤنا في مصر قولهم (دخول الحمام مش زي خروجه)!!
على المستوى العالمي دخل حذاء الرئيس السوفييتي (خروتشوف) التاريخ حين فاجأ العالم في قاعة هيئة الأمم المتحدة ذات يوم من عام 1958 وهو يقرع به على طاولة الاجتماع احتجاجاً على عدم تصفيق الوفد الإسباني له بعدما أنهى كلمته!!
في الفن احتل حذاء سندريلا صفحات التاريخ، وأشعل مخيلات الصغار والكبار عبر المسرحيات الغنائية أو الأفلام التي جسدت كيف أن هذا الحذاء الأنيق لم يلق إلا بالسندريلا ابنة الخادمة التي هام بحبها الأمير مثلما هام الفنان التشكيلي فان كوخ حبا بحذائه فخلده بلوحة هي من أشهر لوحاته.
أبعد من كل ذلك دخل حذاء فاتنة يونانية اسمها (فلومين) التاريخ حيث حفرت عليه كلمة (اتبعني) لتنطبع على وحل شوارع أثينا وهي تجوبها قبل نحو 2400 عام في دعوة لموعد غرامي مع حبيبها (كريتو).
وهكذا .. من الأسطورة إلى الواقع, من حذاء فاتنة أثينا إلى حذاء منتظر الزيدي يبقى الحذاء موزع الدلالة مكثف الرمز للتعبير به عن الاحتقار والإهانة الفضائحية كما في حالة منتظر وخروتشوف والمهلهل والوصال كما في حال (فلومين) أثينا أو الشعور بالخيبة والخسارة كما في حالة جدنا (حنين) وحتى مكافأة الطيبة والبراءة كما في سندريلا.
مع ذلك يبدو أن أجدادنا شاؤوا أن يسعفونا بما هو لا هذه ولا تلك فجعلوا من الحذاء معيار توازن وتعادل فقالوا: (حذو النعل بالنعل) .. ربما فقط ليدفعوا عنا الحرج في اتخاذ الموقف، ولو في مثل حالة منتظر الزيدي. حيث لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار!!