أمريكا تراهن على تراجع الدولار ونحن نراهن على استقراره!
تتتالى خطط الإنقاذ الأمريكية بمبالغ هائلة، بحيث إن بعض التقديرات تشير إلى أن ما تم إقراره فعلا أو مقترح حاليا يزيد على سبعة تريليونات دولار، على سبيل المثال 700 مليار دولار أقرت لشراء ديون الرهن العقاري من المؤسسات المالية ولامتلاك حصص في هذه المؤسسات، 200 مليار لإنقاذ شركتي فاني ماي وفردي ماك العقاريتين، 150 مليار لإنقاذ شركة التأمين المتعثرة AIG، 800 مليار دولار أقرت كضمانات للسندات المدعومة بقروض استهلاكية وقروض بطاقات الائتمان، 300 مليار دولار لشراء ديون "سيتي جروب" المتعثرة، 1.6 تريليون دولار متاحة للمصارف مقابل الضمانات التي لديها ولا ترغب في الاحتفاظ بها، وخطة الرئيس المنتخب أوباما لتحفيز الاقتصاد الأمريكي يتوقع أن تتجاوز تكلفتها 700 مليار دولار، وعدد آخر من خطط وبرامج الدعم والإنقاذ التي أقرها بنك الاحتياطي الفيدرالي لدعم الأسواق المالية وأسواق النقد.
كل هذه الإجراءات المكلفة جداً تأتي في وقت تعاني فيه الميزانية الفيدرالية الأمريكية عجزا هائلا ومن وصول الدين العام الأمريكي إلى معدلات غير مسبوقة بتجاوزه 10.5 تريليون دولار، ومع ذلك لا أحد يتحدث عن فرض ضرائب جديدة لتمويل أي من ذلك، بل على العكس من ذلك، يعد الرئيس الأمريكي المنتخب بمزيد من التخفيضات الضريبية، ما يعني أن الحكومة الأمريكية ستمول هذا الإنفاق من خلال الاقتراض، أي إصدار مزيد من سندات وأذونات الخزانة، ومن خلال مواصلة استغلالها قبول الدولار كعملة احتياط وتبادل عالمية فتطبع مئات المليارات، إن لم يكن تريليونات الدولارات، غير المدعومة بقيمة حقيقية، دون اكتراث لما يمكن أن يترتب على ذلك لاحقاً من تراجع حاد في سعر صرف الدولار أو حتى انهياره، بل من الواضح أن السلطات المالية الأمريكية تراهن في الواقع على أن هذه الإجراءات ستدفع بتراجع حاد في سعر صرف الدولار يحقق مكاسب كبيرة للاقتصاد الأمريكي تخرجه من وضعه المتردي، أهمها التالي:
1. إن تراجع الدولار يعني انخفاضا في التكلفة الحقيقية لخطط الإنقاذ الأمريكية، كما يمثل تخفيضاً حقيقياً في الدين العام الأمريكي، الذي تصل قيمته حاليا إلى ما يقرب من قيمة الناتج القومي الإجمالي الأمريكي، حيث لا أمل في تخفيضه بشكل مباشر، أي من خلال تحقيق فوائض في الميزانية الفيدرالية، والحل الوحيد المتاح هو تخفيضه بطريقة غير مباشرة، أي من خلال انخفاض سعر صرف الدولار.
2. إن تراجع الدولار يولد ضغوطا تضخمية تسهم في ارتفاع أسعار العقارات في الولايات المتحدة ما يحد من أزمة الرهن العقاري ويقلل بالتالي من الديون المتعثرة التي في حوزة المؤسسات المالية الأمريكية، كما أن انخفاض الدولار يترتب عليه ضغوط تضخمية تسهم في رفع توقعات التضخم Inflation Expectations لدى المستهلكين والمستثمرين ما يدفعهم للشراء الآن تجنباً لدفع ثمن أكبر لاحقا، ما يزيد الطلب الكلي، وبالتالي حجم الإنتاج ومستوى التوظيف.
3. إن تراجع الدولار يساعد على زيادة الصادرات الأمريكية ويحد من الواردات، حيث لا يتوقع أن يستطيع الاقتصاد الأمريكي تجاوز حالة الانكماش الحالية دون ذلك.
وإن كانت الولايات المتحدة نفسها تراهن وتعول على تراجع الدولار لإنقاذ اقتصادها، فمن غير المناسب أن نراهن على غير ذلك، ونصر على أن استقرارنا الاقتصادي يمكن أن يخدم من خلال استمرار ارتباط الريال بالدولار، ويجب أن نستبق الانهيار المتوقع في سعر صرف الدولار من خلال ربط الريال بسلة عملات، لا أن نعتبر أن الارتفاع الحالي غير الطبيعي وغير المبرر في سعر صرف الدولار دليلا على صواب استمرار ارتباط عملتنا به، فهذا الارتفاع المؤقت في سعر صرف الدولار يعود بشكل أساس إلى لجوء المستثمرين إلى شراء سندات الخزانة الأمريكية تفاديا للاحتفاظ بالنقد أو توظيف مدخراتهم في استثمارات يرون أنها غير آمنة في ظل حالة الانكماش الاقتصادي التي يتوقع أن تزداد حدتها عالميا، وقد بلغ خوف وهلع المستثمرين حد أن تصدر وزارة الخزانة الأمريكية الأسبوع الماضي أذونات خزانة مدتها أربعة أسابيع بقيمة 30 مليار دولار بيعت خلال فترة وجيزة بسعر مرتفع جدا جعل العائد عليها ينحدر إلى 0 في المائة، وهو أقل عائد تحققه أذونات الخزانة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، وسط طلبات عالية عليها، بحيث كان من الممكن إصدار أذونات بأضعاف هذا المبلغ ويتم بيعها بسعر مرتفع دون أدنى إشكال، فالمستثمرون في مثل هذه الظروف العصيبة لا يهمهم العائد بقدر ما يهمهم أمن مدخراتهم. إلا أن هذا وضع يجب ألا نراهن عليه، فمتى ما أصبح تخوف المستثمرين من تراجع الدولار أكبر من تخوفهم من مجالات التوظيف الأخرى المتاحة أمامهم، أو ظهرت بوادر على تعافي الاقتصاد العالمي، فستأتي ساعة الحقيقة ويدفع الدولار الثمن المستحق لذلك.