بين ديترويت وفيينا
جاءت النتيجة خلاصة طبيعية للمقدمات. ففي نهاية الشهر الماضي انتهت جهود المديرين التنفيذيين الثلاثة لشركات: جنرال موتورز، فورد، وكرايزلر الساعية إلى حمل الكونجرس على دعم خطة إنقاذ للشركات التي تمثل أحد أركان الصناعة الأمريكية إلى الفشل. جزء من الفشل يعود إلى تصرف المديرين أنفسهم الذين لم يفكر أحد منهم في تقليص مصروفاتهم واستمروا في امتطاء طائرات الشركات الخاصة للتحرك بين ديترويت، حيث مقار شركاتهم، وواشنطن حيث أعضاء السلطة التشريعية، بل إن اثنين من الثلاثة أصرا على أنهما سيستمران في الحصول على رواتبهما ومخصصاتهما كاملة، وهي بملايين الدولارات، الأمر الذي دفع أحد أعضاء الكونجرس إلى وصفهم بأنهم مثل الشحاذ الذي يرتدي ملابس سهرة ويبسط يده طالبا المساعدة.
وزاد من حرج الموقف أن العاملين في الشركات أبدوا استعدادا للتضحية ببعض حقوقهم حتى يمكن الحصول على الدعم المنتظر للصناعة ويبلغ حجمه 34 مليار دولار والتخفيف من حدة المعارضة لدى المسؤولين في الجهاز التنفيذي والكونجرس لأي خطوة إضافية تنقذ الشركات من مساوئ إداراتها، خاصة والرأي العام يتبنى مواقف سلبية تجاهها.
على المحك أكثر من المتاعب العادية للشركات في ظروف الكساد الاقتصادي من تسريح للعاملين وتقليص عام للإنفاق، بعض البرامج ذات الصلة بقضايا الطاقة, وعلى رأسها توفير البدائل مثل السيارات الهجين وزيادة الكفاءة لقطع مسافات أكبر بجالون واحد من البنزين. "جنرال موتورز" مثلا كانت تخطط لأن تطرح العام المقبل تسعة نماذج لسيارات هجين وإنتاج ما أطلقت عليه "شيفروليه فولت" وهي سيارة كهربائية في عام 2010.
ولخص جيف بنجمان رئيس لجنة الطاقة والموارد الطبيعية في مجلس الشيوخ الأمريكي الوضع بقوله إن الأزمة أسهمت عمليا في تقويض جهود سنوات بذلتها إدارة بوش في الوصول إلى قوانين للطاقة تتناول مجالات تطوير مصادر متجددة وخفض الاعتماد على النفط المستورد وتقليل الاستهلاك بصورة عامة. أسعار النفط العالية خلال هذا العام التي دفعت بجالون الوقود ليباع بأكثر من أربعة دولارات في بعض الأحيان أسهمت في خفض الاستهلاك وبسرعة قياسية أكثر مما كانت تأمله الخطط المؤودة، لكن مع الأزمة المالية فإن كل تلك المكاسب مرشحة للتراجع.
والمشكلة ليست مقصورة على السوق الأمريكية. فعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي يدور جدل حاد حول إذا كان على الحكومة دعم شركة أوبل لإنتاج سيارات بيئية, كما يدعو رئيس وزراء لوكسمبورج وتعارضه المستشارة الألمانية, وينقسم ساسة المفوضية الأوروبية بين الموقفين.
ما يجري يؤكد حقيقة اقتصادية أساسية وهي دور السعر. فارتفاع سعر النفط أسهم في تحقيق (إنجازات) للدول المستهلكة لم تكن تحلم بها، لكن التراجع أدى إلى تقويض تلك الإنجازات بالسرعة التي تحققت بها نفسها. وإذا كان من درس من الأزمة المالية الأخيرة التي تحولت إلى اقتصادية وذات بعد عالمي, هو أنه لا يمكن للآلية السحرية للسوق أن تفعل فعلها دون تدخل من جهة ما حكومية. وهذا هو أس الخلاف بين منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك" والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة.
وبغض النظر عما إذا كان أوباما سيواجه بداية بمشكلة شركات السيارات أم لا، فإن قضايا الطاقة ستفرض نفسها عليه بصورة أو أخرى. وسيسعى مثل أسلافه إلى الحد من الاستهلاك وتشجيع الاتجاه إلى الطاقة البديلة والمتجددة، لكنه سيظل مواجها بكيفية إجراء تغييرات جذرية في نمط الحياة الأمريكية القائم على الاستهلاك المفرط ونتيجته أن الولايات المتحدة التي تنتج 3 في المائة فقط من الإنتاج النفطي العالمي تستهلك يوميا 20 في المائة من الإمدادات العالمية. وهذه الفجوة هي التي تفسر العجز المتتالي عن مواجهة هذه القضية لمختلف الرؤساء الذين تعاقبوا على البيت الأبيض من جمهورييهم إلى ديمقراطييهم خلال فترة تمتد إلى أكثر من ثلاثة عقود من الزمان.
العجز الذي شعرت به ديترويت، مركز صناعة السيارات، وهي تواجه مصيرا مجهولا وخطرا تواجهه من الناحية الأخرى فيينا، حيث مقر منظمة "أوبك"، وهي تبدو عاجزة عن مواجهة الهبوط الحاد في سعر البرميل للدرجة التي كاد يهدد فيها موازنات الدول الخليجية وهي التي تعتمد على معدل سعري أقل للبرميل أكثر من الدول المنتجة الأخرى.
ويتطلب هذا الوضع التخلي عن العادة السابقة باستغلال فرص تحول السوق لصالح المنتجين مرة ولصالح المستهلكين مرة أخرى. فمن الواضح أن أيا من الوضعين يبذر بذور الأزمة المقبلة، وإنما يحتاج إلى تجريب جدي لشيء من التعاون الذي يضع نصب أعينه تحقيق مصلحة ذاتية وكذلك للطرف الآخر.
ومن مزايا الأزمة الحالية أنها ورغم الانهيار في أسعار النفط إلا أنها فتحت الأعين ومن الآن على عناصر الضعف التي ستدفع بالأسعار إلى الارتفاع مجددا. لكن هل هناك من مدّكر؟