رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


رشا المحرمين في الشهر الحرام وفي البلد الحرام!

لم يعد سراً أن عدداً من الحجاج الذين تمتلئ بهم الحافلات, ممن لا يملكون تصاريح للحج, أنهم دفعوا رشا لبعض رجال الأمن لقاء السماح لهم بدخول مكة المكرمة! وفي إحدى الحافلات الممتلئة بالحجيج أخذ رجل الأمن من كل حاج 150 ريالا, فكان مجموع المبلغ المستلب منهم ستة آلاف ريال! وهكذا يتجرأ بعض رجال الأمن على أخذ الرشا من حجاج بيت الله الحرام وكأن موسم الحج فرصة ربحية لجلب أكبر قدر ممكن من الرشا!
والطامة الأخرى أن يتجرأ الحاج فيبدأ حجه بكبيرة من كبائر الذنوب, وقد يكون حجه لفريضة, فيشوه فريضة الحج بمثل هذه الأوضار الضارة والمخلة. وقد يكون حجه لنافلة؛ فيقع في كبيرة, ليظفر بنافلة! وهذا يذكرنا بأولئك الذين استباحوا دم الحسين وجاءوا يسألون عن دم البعوض. كما تذكرنا هذه الممارسات الآثمة بتلك الكلمة المأثورة عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ حين رأى ما أحدث الحجاج في زمانه, فقال: "الراكب كثير, والحاج قليل!" والفرق بين الراكب والحاج هنا كالفرق بين المصلي ومقيم الصلاة, والمصلي هو من يؤدي الصلاة ظاهرا بحركاتها وأشكالها وقلبه غافل ساه, أما مقيم الصلاة فهو من يؤديها بخشوع وحضور قلب, وهذا الأخير هو الذي تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر, وهذا ما ألمح الله تعالى إليه في قوله:"وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر", وهكذا الحج. وإذا كانت تلك العبارة المأثورة قد أطلقها سلفنا الصالح قبل مئات السنين, حيث القرون المفضلة, فما الظن في حجاج عصرنا الحاضر؟! وإذا أردنا أن ندرك الواقع كما هو دون تزويق, فلننظر في واقع سلوك الحجاج أثناء تأديتهم النسك, ولنرقب سلوكهم بعد رجوعهم من هذه الشعيرة العظيمة, فكم من حاج أدى حج هذا العام, بل كم من حاج يواظب على أداء هذا النسك كل عام, ثم تراه في حجه يشتم هذا, ويلغ في عرض ذاك, وربما يمسك عن كثير من المنكرات أثناء تأديته نسكه, فإذا فرغ من حجه, ورجع إلى بلده, تراه يعود إلى سابق عهده, حيث قطيعة الرحم, أو سوء معاملة القريب والبعيد, أو أكل أموال الناس بالباطل, أو ما يمارسه من ظلم لهذا أو ذاك, ولو شققت عن قلبه لوجدته كما هو, حيث الكبر والتعالي, أو العجب, أو الحسد والحقد!! فأين حظ هذا من الحج؟ وهل أدى هذا الحاج نسكه عادة أم عبادة؟ إن من حج تعبداً لله تعالى وإخلاصاً له وتقرباً إليه ترى أثر الحج عليه ظاهراً في سلوكه وأخلاقه ولو حج مرة في حياته, أما من حج عادة, أو رياء وسمعة؛ ليقال حاجا - وقد قيل - فهذا لا ترى أثراً للحج في سلوكه ومعاملاته مع الله تعالى أو مع الناس ولو حج كل عام! بل تراه يعود إلى سلوكه الأول كما هو قبل الحج! وليت شعري أين الحاج الذي يرجع من حجه فيحاسب نفسه, وينظر في أسلوب حياته, وصلاته بوالديه وزوجه وأولاده, وسلوكه في وظيفته وتجارته, وفي مصادر ثروته, وطرق إنفاقه, فيقيسها بميزان الشرع, لا بميزان الهوى, فكم من حاج يرجع إلى أسلوب حياته - قبل حجه - فيعود إلى التقصير في حقوق والديه مما كان سببا في تنغيص حياتهما كما هو على ذلك كل عام, أو تراه يعود إلى ظلم زوجه وأم أولاده وسوء عشرتها مما كره إليها بسوء معاملته عيشها وحياتها كما هو على ذلك كل عام, أو يعود إلى ما هو عليه من التحايل على أكل أموال الناس بالباطل حتى فاحت رائحته وأزكمت الأنوف, فأين أثر الحج في سلوك هذا وأمثاله؟ لقد تخفف هذا الحاج من ملابسه ولبس لباس الحاج ولم يتخفف من أثقال الذنوب! وحلق هذا الحاج رأسه أو خفف منه ولم يتخفف من ظلم الأهل والأقربين أو المستضعفين! وذبح هذا الحاج نسكه ونحر هديه, ولم ينحر هواه الذي زين له سوء عمله! وبات هذا الحاج في مزدلفة ومنى ورمى الجمرات الثلاث, ولم يرم شيطانه الذي جرى في دمه وبات في خيشومه وتربع على عرش قلبه وفؤاده! فكيف يعود من هذا حاله بعد حجه كيوم ولدته أمه, وهو كهو يوم سافر إلى حجه!! إن المسلم المخلص في عبادته, والصادق مع ربه, تراه دائم المحاسبة لنفسه, فيظهر أثر العبادة عليه صدقاً لا تصنعاً, وهذا وحده المنتفع بالعبادة دون كل من سواه.
وعوداً على ذي بدء, فإن على المسؤولين وضع حد لذلك الابتزاز الذي يمارسه بعض رجال الأمن تجاه بعض الحجاج غير المصرح لهم؛ ليحصلوا على حفنة من أموال الناس بالإثم (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم) والله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
لقد كنا سابقاً نستغرب من الرشا المنتشرة في بعض البلاد العربية من حولنا, وها نحن اليوم نراها تتسلل إلى عقر دارنا, بل في أطهر بقعة, وفي أقدس زمان..! بل صرنا نسمع عن رشا يأخذها أناس تتجه إليهم الأنظار, ويعتبرون القدوة والأسوة في نظر الناس! فلماذا هذا التهاون في هذه الجريمة المالية والأخلاقية؟ ولماذا هذا التساهل في هذه الكبيرة من كبائر الذنوب؟
لقد وقف الإسلام موقفاً وسطاً من العطايا والهدايا والهبات, فمنع من الهدايا التي يُبتز بها الناس, أو تلك العطايا والهبات التي يتوصل إليها المرء من خلال وظيفته؛ ليحقق بها مطامع شخصية, وهي تلك الهدايا المعروفة بالرشا؛ لأنها تفسد الأخلاق, وتوظف بها الوظائف والأعمال لأغراض شخصية, وتضر باقتصاد البلد, وفي الوقت نفسه, نجد الإسلام قد حض على الهدايا التي تهدى لوجه الله تعالى, من أجل دعم أواصر المحبة, وتقوية اللحمة, ولهذا أمر الإسلام بالهدية, وحث على قبولها, والإثابة عليها, كل ذلك ليبقى المجتمع المسلم متماسكاً, تسوده المحبة والرحمة, أما حين تنعكس الآية, فتصبح الهدية وسيلة للاستغلال, وتحقيق الأهواء الشخصية, فهنا يجب الضرب من حديد على كل من يعبث بأخلاقيات المجتمع, ويهدد قيمه وأخلاقه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي