مصداقية الاقتصاديين على المحك

آلام الأزمة المالية الحالية لا تقع فقط على الحكومات ممثلة في وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية في العالم، أو المستثمرين الذين خسروا أموالاً كثيرة نتيجة للتراجعات الحادة في أسواق المال العالمية، أو الأفراد الذين تراجعت دخولهم وخسروا وظائفهم ومنازلهم. ولكن وقع الأزمة أشد علينا نحن الاقتصاديين نتيجة لعدم القدرة على التنبؤ الدقيق أو على الأقل المقارب للدقة بالأزمة. إذ لم يتمكن أي اقتصادي في العالم من التنبؤ بحدوث الأزمة أو صياغة سيناريو محتمل مقارب لما حدث، مما سيؤدي إلى التقليل من مصداقية المحلل الاقتصادي لدى المتلقي سواء المستثمر أو الفرد.
كريس جايلز كتب مقالاً في مدونة "الفاينانشيال تايمز" عنونه بـ : Vision Thing أو مسألة الرؤية، حمل فيه على عدم قدرة الاقتصاديين بالتنبؤ بالأزمة الحالية، مشيراً إلى أن الملكة إليزابيث نفسها طرحت تساؤلاً على جمع من الاقتصاديين المخضرمين في كلية لندن للاقتصاد عن السبب في عدم توقع أحد منهم حدوث الأزمة. الاقتصاديون المسلحون عادة بأعتى الأسلحة التحليلية وأكثر البرامج الحاسوبية تقدماً وآلاف من المعلومات الإحصائية حاروا في الإجابة عن هذا التساؤل ولسان حال كل منهم يقول: نعم، لماذا لم نتوقع حدوث الأزمة.
على العكس من ذلك يبدو أن هذه الأزمة تأتي كالغيث لتدعم رؤية المفكر والفيلسوف نسيم طالب صاحب كتاب البجع الأسود والذي كتبت مقالاً سابقاً يتناول أفكاره المطروحة في هذا الكتاب والتي وجدت لها صدى كبيراً في عدد من المحافل العلمية. إذ إن نسيم (اللبناني الأصل والمتيم بأفكار الغزالي) يرى أن العالم محكوم Dominated بالأحداث الكبرى كالحرب العالمية الثانية وموجة التسونامي والأزمة المالية الحالية والتي يعرفها على أنها البجع الأسود الذي لم يكن الإنجليز يتوقعون وجوده حتى اكتشفت أستراليا. وعند حدوث هذه الأحداث الكبرى والنادرة فإنها آثارها السلبية (أو الإيجابية) قد تأتي على جميع النتائج الإيجابية (أو السلبية) التي حصدناها اعتمادا على الأحداث المتكررة أو البجع الأبيض.
ومن ثم فإن نسيم يرى أن عملية التنبؤ التي يقوم بها الاقتصاديون لا فائدة منها إذ إنها تركز على الأحداث المتكررة ولا تستطيع التنبؤ بالأحداث الكبرى التي يمكن أن تغير وجه البشرية وتبقى آثارها خالدة لعدد من السنوات. ومن هذا المنطلق فنسيم طالب - الذي عمل كمضارب في الأسواق المالية وحقق نجاحات كبيرة في هذا المجال – يحمل بشدة على النماذج الرياضية التي يحاول فيها الاقتصاديون التنبؤ بالأحداث المستقبلية. وهو دائماً ما يكرر مقولة أن الاقتصادي لا يمكن أن يقدم لك معلومة عن الاقتصاد أكثر مما سيقدمه لك سائق التاكسي. بالطبع هناك ثغرات علمية كبرى في الطرح الذي يقدمه نسيم طالب الذي يخالفه فيه حتى أساتذته في جامعة كولومبيا، لكن هذا الوقت يأتي بشكل مغاير ليقف في صف أفكاره التي توصف أحياناً بالمتطرفة.
وعودة إلى المقال المشار إليه وبدءاً من بيرنانكي الذي تحدث إبان ترشيحه لمنصب رئاسة الاحتياطي الفيدرالي عام 2005 عن أن الأزمات المالية السابقة زادت الاقتصاد الأمريكي قوة وأن عمق ومرونة الأسواق المالية ارتفعت بشكل كبير، وطبعاً الواقع أثبت عكس ذلك. جان كلود رئيس البنك المركزي الأوروبي توقع شهر تموز (يوليو) الماضي أن منطقة اليورو ستواجه ضعفاً في النمو في الربعين الثاني والثالث ولكن سرعان ما ستتجاوز ذلك في الربع الرابع وبداية السنة المقبلة، الأمر الذي يخالف ما يحدث حالياً من انكماش اقتصادي حاد في القارة الأوروبية. وأخيراً يشير كريس جايلز إلى استبعاد رئيس بنك إنجلترا خلال هذا العام احتمال حدوث أي ركود اقتصادي، الأمر الذي يوضح عدم القدرة على رؤية الأحداث وقراءتها بشكل يؤدي إلى تنبؤات دقيقة.
وعلى الرغم من ذلك فهناك عدد من الاقتصاديين (الموصوفين بالمتشائمين) توقعوا حدوث مشكلة اقتصادية ما اعتمادا على ربطهم بين علاقات اقتصادية محددة. ومن هؤلاء كينيث روجوف ونوريل روبيني. لكن عدداً من الاقتصاديين (المتفائلين) يرون أنه من السهولة الرمي باحتمالات متشائمة في أي وقت دون الاعتماد على إثباتات دقيقة لها لأن الناس سينسون هذه الرؤية في حال عدم حدوثها وسيتذكرونها في حال حدوثها مما يشكل عاملاً إيجابياً بالنسبة لمن طرحها. وعلى هذا الأساس فإن مقالة كريس جايلز تجيب عن التساؤل المتعلق بعد القدرة على التنبؤ بالأزمة من خلال ست نقاط:
أولاً: أن هناك بعض الأحداث التي لا يمكن التنبؤ بها Unforeseen، وبالتالي فإن حدوثها يمثل عملية تغيير للعبة التنبؤ من التفاؤل إلى التشاؤم كسقوط ليمان بروذرز.
ثانياً: حسب ستيفين كينج وهو كبير الاقتصاديين في HSBC فإن جميع النماذج الاقتصادية تفترض أن النظام المالي يعمل بشكل متسق. لكن أي من تلك النماذج لم يدخل في حسابه كيف أن السياسة النقدية اللينة بداية هذا العقد ستؤثر في استقرار ذلك النظام المالي.
ثالثاً: الارتفاع الحاد في أسعار السلع الذي لم يكن أحد يتوقعه أدى إلى الضغط على دخول الأفراد ومن ثم أسهم في تعميق مشكلة الرهن العقاري.
رابعاً: أن النماذج الاقتصادية تفترض دائماً أن الطلب على النقود مستقر ولم تأخذ في حسبانها لجوء المؤسسات والأفراد إلى التمسك بالنقد للتحوط من مخاطر الإفلاس المتزايد.
خامساً: الاعتماد المتزايد على الفجوة بين الطلب والعرض من السلع لتحديد مستوى التضخم الذي أوهم واضعي السياسة النقدية أن كل شيء على ما يرام.
سادساً: التحيز لدى واضعي السياسة الاقتصادية والمستثمرين للرؤى المتفائلة بشأن الاقتصاد مما يقلل من شأن المشكلة المحتملة ويفاقم آثارها السلبية في الاقتصاد. وحسب كينيث روجوف فإن ذلك هو السبب الرئيس لعدم القدرة على الحصول على دخل جيد في الـ "وول سترييت" بالعمل كاقتصادي (متشائم).

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي