من يدعي وصلاً بليلى؟

شهدت تشيلي، "نمر أمريكا اللاتينية" كما يطلق عليها في الأوساط الدولية، خلال منتصف التسعينيات طفرة اقتصادية، هي الثانية في تاريخها والأشمل في جوانبها مقارنة بطفرتها الاقتصادية الأولى خلال بداية السبعينيات. حيث حقق الاقتصاد التشيلي خلال الفترة من 1985 إلى 1995 معدل نمو سنوي بمقدار 8 في المائة، وانخفض معدل التضخم من 27 في المائة إلى 6 في المائة، وانخفض معدل البطالة إلى 4 في المائة، وانخفضت نسبة الفقر من 40 في المائة إلى 17 في المائة.
عزيت أسباب الطفرة الاقتصادية إلى سلسلة من الإصلاحات المالية، التي وضعت قيد التنفيذ مع مطلع الثمانينيات، وهدفت إلى تحديث آلية عمل المؤسسات غير المصرفية. من ضمنها إصدار نظام الأوراق المالية والتأمين، وإنشاء هيئة السوق المالية، وحصر نشاط الوساطة المالية في الشركات المتخصصة دون غيرها من المؤسسات المالية.
لم يكن سوق سانتياجو المالي بمعزل عن هذا النمو. حيث تضاعف حجمه، وازداد عمقه المالي، وسجلت أصوله معدل نمو سنوي بمقدار 55 في المائة. كما بلغت مساهمة الأوراق المالية في الناتج المحلي الإجمالي مستويات قياسية غير مسبوقة. منها زيادة حركة تداول الأسهم من أقل من 1 في المائة إلى 18 في المائة، و نما إجمالي قيمة السوق السوقية من 13 في المائة إلى 112 في المائة. أهَّلت هذه المستويات القياسية السوق إلى أن تصبح من أفضل وأقوى الأسواق المالية ليس على مستوى أمريكا اللاتينية فحسب، وإنما على مستوى جميع الدول النامية.
كانت السوق تتخذ من أحد المباني القديمة في وسط العاصمة سانتياجو مقرا لها. كان لزاما على جميع شركات الوساطة المالية حسب نظام السوق المالية أن تتخذ هذه الشركات من السوق مقرا رئيسا لأنشطتها. وتحقيقا لمبادئ الشفافية والمساواة، ألزمت هيئة السوق الشركة المشغلة للسوق أن تزود جميع مكاتب الوساطة بخطوط اتصال سريعة لربطها بنظام التداول الآلي لتستفيد من سرعة شبكة المعلومات، التي تصل إلى 100 ميجابايت، في تنفيذ صفقات عملائها و خدمتهم بكل يسر وسهولة.
لم تستطع شركات الوساطة مواكبة النمو السريع في حركة التداول مع بلوغ مؤشرات الاقتصاد التشيلي ذروته في نهاية عام 1995م، وتسجيل حركة تداول الأوراق المالية مستويات قياسية غير مسبوقة. أعادت هيئة السوق المالية عندها النظر في حصر نشاط الوساطة في الشركات المتخصصة، وكسرت الجمود بإعلانها عن الترخيص لشركات التأمين لتقديم خدمات الوساطة.
لم تجد شركات التأمين الداخلة حديثا في نشاط الوساطة بسبب محدودية مساحة مقر السوق المالية سوى اللجوء إلى المباني المحيطة بمبنى السوق ليكون مقرا رئيسا لمزاولة أنشطة الوساطة. نشأت هنا مشكلة فنية من جزئين، واضعة مبادئ الشفافية والمساواة أمام تحد كبير، ومهددة العمق المالي للسوق المالية.
تمثل الجزء الأول في عدم قدرة الشركة المشغلة للسوق على توسعة شبكة معلوماتها لتغطي شركات التأمين خارج مبنى السوق. السبب في ذلك أن بلدية العاصمة سانتياجو لم تسمح بإجراء عمليات حفر لمد خطوط الاتصال السريعة. كما أن وزارة الخارجية رفضت إنشاء شبكة معلومات واسعة نظرا لوجود بعض المباني الدبلوماسية قرب السوق. وكحل مؤقت، زودت شركات التأمين بنهايات طرفية تعتمد على خطوط الهاتف تصل سرعتها في أحسن الأحوال إلى 52 ميجابايت.
تمثل الجزء الثاني من المشكلة في عدم قدرة شركات التأمين على استخدام نظام التداول الآلي بسبب أنه طور لكي يتوافق مع خطوط اتصال سريعة. وكحل مؤقت، تم التنسيق بين شركات الوساطة داخل السوق وشركات التأمين خارج السوق حول تولي الأولى القيام بإجراء صفقات التداول نيابة عن الثانية بمقابل مادي.
طفت على السطح انعكاسات هذه المشكلة بعد قرابة العام ومع إعلان نتائج شركات الوساطة. حيث أظهرت النتائج زيادة ملحوظة في صافي دخل شركات الوساطة العاملة داخل السوق مقابل زيادة متواضعة جدا لمثيلاتها من شركات التأمين. بدأت شركات التأمين مع إعلان النتائج بفقدان عملائها مصلحة شركات الوساطة العاملة داخل السوق. وعادت مشكلة سرعة تنفيذ الصفقات بالظهور من جديد.
شعر عملاء شركات التأمين بفقدان الثقة في السوق بعد اصطدام استثماراتهم بتصحيحاته المتتالية. وبدأوا في تهجير رساميلهم إلى الأسواق المالية المجاورة، وبدا نجم سوق سانتياجو المالي يأفل من سماء الاقتصاد التشيلي بعد فترة من اللمعان.
كان أفول نجم السوق مأساة اقتصادية بمعنى الكلمة. فخلال الفترة 1995 إلى 2000، انخفضت مساهمة أوراقه المالية في الناتج المحلي الإجمالي بشكل حاد. منها انخفاض حركة تداول الأسهم من 18 في المائة إلى 9 في المائة، وإجمالي قيمة السوق السوقية من 112 في المائة إلى 92 في المائة.
لم تستطع الأوساط الاقتصادية التشيلية تحديد المسؤول عن المأساة. فتارة يلقى باللوم على شركة تشغيل السوق المالية، وتارة على قصور تشريعات هيئة السوق المالية، وتارة بيروقراطية بلدية العاصمة سانتياجو، وتارة تعنُّت وزارة الخارجية في مرونة مواقع المواقع الدبلوماسية.
العلاقة بين شركات الوساطة ومنافسيها الجدد من شركات التأمين في سوق سانتياجو من الأهمية بمكان النظر إليها على أنها مثال سابق إلى ما قد يؤول إليه الحال عندما تطغى مصلحة الفرد على مصلحة الجماعة.
تشمل قائمة الأشخاص المرخص لهم والمنشورة على موقع هيئة السوق المالية بمزاولة أنشطة الأوراق المالية 104 شركات استثمارية. تتباين أنشطة هذه الشركات من تعامل، وإدارة، وحفظ، وترتيب، إلى استشارة. وتتباين كذلك عراقتها بين شركات ذات ارتباط وثيق بمصارف تجارية قائمة، وأخرى ناشئة.
يقود هذا التباين إلى طرق باب تباين الميزة التنافسية بين الشركات الاستثمارية من واقعية فعّالة إلى نظرية متواضعة. وعلى الرغم من الجهود المبذولة في تحقيق مبادئ الشفافية والمساواة بين الشركات الاستثمارية، إلا أنه يجب التأكيد على أهمية سد جميع الثغرات التي قد تتسرب منها تحديات مستقبلية قد تؤثر سلباً في حقوق المستثمرين والمتعاملين. ولكيلا يغني كلُّ على ليلاه، ولا يدعي كلُّ وصلاً بليلى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي