رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


العمل والشباب والمجتمع المنتج

خلال إجازة الصيف الماضي حصلت لي فرصة الحركة مع العائلة في بعض الأسواق داخل مدينة الرياض، ما مكنني من ملاحظة بعض الظواهر الإيجابية التي تستدعي الإشارة إليها, والإشادة بها، نظراً لأنها تمثل نقلة نوعية في طريقة تفكير الشباب نحو أنفسهم, وعائلاتهم, ونحو وطنهم, ومجتمعهم بشكل عام. منذ سنوات عدة ومسألة البطالة هي الشغل الشاغل لكثير من المسؤولين, أولياء الأمور, المثقفين, وحملة الفكر، لأن جميع هؤلاء يدركون خطورة البطالة ليس على صعيد الفرد فحسب, بل على صعيد المجتمع في نسيجه, وأمنه, واقتصاده. البعض يعلل هذه البطالة بوجود العمالة الأجنبية التي تزاحم المواطن في مجالات العمل لا يمكن تصور خلو مجتمعنا من العمالة الوافدة تماماً, ذلك أن بعض المهن تحتاج إلى محترفين, وذوي مهارات من نوع خاص للقيام بها, لكن في الوقت ذاته لا يمكن تصور أن كل المهن لا يقوم بها إلا من قدموا من خارج الحدود, وكأن ابن الوطن عاجز, أو لا يريد, أو لا يرغب في الإسهام في بناء الوطن والعمل من أجله.
تداعيات السنوات الماضية لا شك أنها خلقت جيلاً اتكالياً يعتمد على الغير في كل شيء, وأصبح هذا التفكير جزءا من بنائه العقلي الذي يقف دونه ودون الانطلاق في الميدان, والبحث عن عمل يدر منه رزقه ورزق عائلته, لذا جلس البعض من الشباب على هامش الحياة يرقبون الحياة, وهي تتحرك من حولهم بسرعة فائقة دونما حراك من قبلهم يجعلهم ضمن مسيرة البناء التي يشهدها الوطن في كل المجالات, لكن ما لاحظته خلال الصيف يكشف أن الوضع بدأ يتغير على أقل تقدير لدى البعض من الشباب, وإن كان بنسبة محدودة، لكنها تبشر بالخير, وبدأوا الحركة للبحث عن عمل, والسعي وراء فرص التدريب التي تمكنهم من الانخراط في الميدان, والإسهام مع الآخرين في البناء. حدث أن زرت خلال الصيف سوق إيكيا على الدائري الشرقي, وأثناء تجولي في السوق لفت نظري الشباب السعودي في كل زاوية وموقع من السوق, وهم يلبسون البدلة الخاصة بالسوق يعملون, فهذا شاب يرتب الأغراض في الأرفف وفي الأماكن المحددة, وهذا يشرح لزبون من الزبائن, وثالث ينقل البضاعة, ورابع يعمل في المحاسبة، وما زاد من سروري هو كثرة أعدادهم, ليس هذا فقط، بل الحيوية والروح العالية للعمل كاسرين بذلك الهاجس النفسي الذي يراودهم أو يتبادر إلى أذهانهم, والنظرة الاجتماعية المتوهمة إلى حد كبير في شأن النزول إلى الميدان والعمل اليدوي, أو العمل خارج إطار المكاتب والوظائف الإدارية.
تحدثت لبعضهم, وناقشتهم فألفيت بعضهم يتحسر على الأيام الماضية التي أضاعوها في اللهو, والتسكع, بل إن بعضهم قال بصريح العبارة: إنه وجد نفسه أخيرا بعد أن زاول العمل, وبدأ يتعرف على قدراته الاجتماعية, ومهارات التواصل والنقاش والإقناع, بل إن صحته تحسنت بعد التحاقه بالعمل وذاق طعم الحياة الحقيقية.
مكان آخر لاحظت فيه شباباً يعملون بكل إخلاص وإصرار, وبكل مهنية راقية في مستواها. المكان هو مطعم دومينوز للبيتزا أو الفطيرة الإيطالية, هؤلاء الشباب يقومون بجميع مراحل العمل لإعداد الفطيرة، ما يبهج النفس وهي ترى الشباب بهذه الملابس النظيفة والممارسة الدقيقة والشعور بالفخر للقيام بدور اجتماعي لا بد من القيام به سواء من مواطن أو غيره. كنت أراقب الشباب وهم يعدون الطلب وأقارنهم بمن يعملون في المطاعم الأخرى التي حدثت لي زيارتها فوجدت ألا فرق بين السعوديين وغيرهم من حيث المهنية, إن لم يكن السعودي الأكثر في الجوانب الإيجابية.
إن هذا التوجه في اقتحام مجالات العمل التي أشرت إليها أمر محمود, ويجب تشجيعه لتوسعة الرقعة التي يجب أن يدخل إليها الشباب السعودي، إذ لا يزال كثير من المجالات يندر، إن لم يكن ينعدم، وجود أي شاب سعودي فيها, وهذا يتطلب جهداً مضاعفاً من المجتمع حكومة ومؤسسات خاصة, وأول هذه الجهود يتمثل في تغيير النظرة الاجتماعية نحو الأعمال, والحرف, والترغيب في القيام بها, وإحداث اتجاهات إيجابية بدلاً من الاتجاهات السلبية التي غرست عبر السنين دونما أساس جوهري لهذه الاتجاهات السلبية, المجتمع من خلال المدرسة, والبيت, ووسائل الإعلام, وجميع الأنشطة الثقافية التي تعقد في النوادي, الجامعات, المؤسسات الخيرية, والمساجد يمكن أن يوجد الاتجاهات الإيجابية, ويشجع الشباب على العمل بدل تركه يعاني الفراغ الذي قد يقوده إلى الانحراف, والدخول في متاهات الفساد, والخروج على النظام, والقيم, والتوجيهات الدينية, ما تترتب عليه مشكلات أمنية لا تحمد عقباها. الجهد الثاني الذي يفترض القيام به هو إيجاد التشريعات والأنظمة المحفزة للشباب للقيام بالمهن التي تحتكرها العمالة الوافدة الآن, وذلك من خلال تحديد مستويات دخل تناسب متطلبات الحياة وتكاليفها, والنظر في تأمين طبي, وبدل سكن, إضافة إلى راتب تقاعدي يشعر معه الفرد بالأمان في اختياره واستمراره العمل في مهنة من المهن التي قد لا تكون جاذبة.
أما الأمر الآخر فهو الإكثار من برامج التدريب للشباب، بهدف إكسابهم المهارات اللازمة لمزاولة عمل من الأعمال أو مهنة من المهن, فإجادة العمل, والقيام به خير قيام أمر لا بد من التأكد منه حتى لا يكون الشاب السعودي محل نقد من قبل أرباب العمل الذين قد يجدون في نقص المهارات أو ضعف الدافعية سبباً لفصلهم من العمل أو عدم الترحيب بهم ابتداء. الدعم المادي للمشاريع التي يرغب الشباب القيام بها، أعتقد أنه خطوة لا بد منها, وهذا ما تقوم به بعض الشركات مثل برنامج عبد اللطيف جميل, الذي يقدم العون والمساعدة المادية لأرباب المشاريع، ما مكن كثيرا منهم من شق طريقه في الحياة, والاعتماد على الذات من خلال عمل منتج, ومربح في الوقت ذاته.
إن بذل الجهود كل في مجاله وبناء على قدرته سيسهم حتماً في إحداث نقلة نوعيه في المجتمع نجد نتائجها بعد فترة في وضع كل مواطن في بيئة عمل تناسبه, وتدر عليه دخلاً يكفيه فاقة الفقر, ويحميه من الانحراف. كما لا ننسى أهمية ربط العمل والسعي للحصول عليه بالدين الحنيف، الذي يحث على العمل وضرورة أن يكون كل فرد منتجاً بدلاً من أن يكون عالة على غيره أو يسأل الناس أعطوه أو ردوه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي