أزمة المال: التربية الفهم والحلول

سألني أحد الإخوة الأعزاء وأنا في مناسبة اجتماعية هل يوجد علاقة بين أزمة المال والتربية؟ فسألته عن معنى العلاقة التي يتساءل عنها, فأردف قائلاً: إن العلاقة التي يود معرفتها هل يمكن أن نفسر, أو نبحث عن حلول لأزمة الإنسان في الشأن الاقتصادي والمالي في ميادين التربية والتعليم؟ وإزاء هذا السؤال الكبير, والمهم جداً أردت مشاركة القراء الأعزاء في هذا الموضوع الحيوي, الذي قد يغيب عن البال, ذلك أننا كثيراً ما ننظر إلى الأمور من زاوية ضيقة محدودة, ولا نتناولها بالصورة الشمولية التي تجعلنا نأخذ في الاعتبار جميع العناصر أو معظمها على أقل تقدير إذا ما أردنا أن نفهم الظواهر الاجتماعية, والاقتصادية الفهم الصحيح, ونبحث عن حلول مناسبة لها. ترى كيف تكون التربية ذات علاقة بموضوع اقتصادي؟ المدخل الطبيعي الذي يفسر به سلوك الفرد, والجماعات, والأمم سواء كان في المجال الاقتصادي أو السياسي أو أي سلوك, وفي أي مجال هو البناء النفسي للفرد أو الجماعة, وكما هو معلوم فالبناء النفسي هو نتاج, وحصيلة التربية والتعليم الذي تلقاه الفرد في مدرسته, أو جامعته أو بيئته أو أي قناة من قنوات التربية والتعليم, أي بعبارة أخرى إن سلوك الإنسان الإيجابي أو السلبي يوجه بالخلفية التربوية التي عاشها الفرد, لذا جاء النهي النبوي عن الزواج بالمرأة الجميلة التي تربت ونشأت منشأ سوء، لأن هذه التربية قد تؤثر في سلوكها, وأخلاقياتها ما يوقعها في الانحراف أو التعامل السيئ مع الزوج, وذلك في قوله ـ صلى الله عليه وسلم "إياكم وخضراء الدمن"، وهذه البيئة قد تكون بيئة المنزل أو البيئة العامة أو بيئة المدرسة, وما يحصل عليه الفرد فيها من معارف ومعلومات أو ما يشاهد من سلوك يصدر من فرد يمثل قدوة للطالب أو الناشئ, ومن ثم يحتذي حذو من يعتبره قدوة له ويسلك مثله ويتصرف كتصرفه.
وإذا أدركنا أهمية التربية في تشكيل وبناء الفرد معرفياً, ومشاعرياً, ومن ثم سلوكياً يمكن تفسير الأزمة المالية, والاقتصادية التي حدثت في الولايات المتحدة, وجرت معها الكثير من المجتمعات, والدول. السعي وراء المال, وحب اقتنائه غريزة في النفس البشرية جبل عليها الإنسان لتكون حافزاً له على عمارة الأرض وبنائها, ولولا هذه الغريزة لما رأينا الإنسان يكدح وينشط ويسعى في الأرض طولاً وعرضاً "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور"، كما أن القرآن الكريم أكد في مواقع عدة أهمية المال وقيمته في حياة الناس "وتأكلون التراث أكلاً لما. وتحبون المال حباً جما" وقوله تعالى "المال والبنون زينة الحياة الدنيا" وقوله "وإنه لحب الخير لشديد" هذه بعض النصوص القرآنية التي تؤكد الأساس النفسي الفطري لدى الإنسان, الذي أودعه الله لدى بني آدم كطاقة, وقوة تحركه, وتفتح أمامه السبل التي يسلكها للحصول على المال واقتنائه.
قال لي صاحبي الآن فهمت العلاقة بين الإنسان والمال، هذه العلاقة التي تصل إلى درجة الحب, ولكن كيف تكون التربية إطاراً مناسباً للتعامل مع أزمة المال فهماً وبحثاً عن حلول, قلت له التربية ما هي إلا تطبيق للأسس النفسية التي أودعها الله في الإنسان, وعلى قدر نجاحنا في فهم النفس الإنسانية وإدراك القوانين, والسنن الإلهية فيها ننجح في التعامل مع هذه الأزمة تفسيراً, وبحثاً عن حلول. لذا جاء التوجيه الإلهي والدعوة لفهمها "وفي أنفسكم أفلا تبصرون". التربية بجميع وسائطها من كتاب, قصة, فيلم, مسرح, شبكة عنكبوتية, برنامج إذاعي, وتلفزيوني تسهم في إمداد الأفراد والجماعات في المعرفة, المعلومة, القيم, الاتجاهات, الميول, والرغبات, ومن ثم يحدث السلوك الذي يتوج به الفرد هذه الأشياء من خلال ممارسة, وفعل, وذلك بناءً على نوع, ومقدار المعرفة, وقوة الاتجاه, والميل, ونوع القيم المغروسة في ذات الفرد. أي بعبارة أخرى قد نجد مجتمعاً يعلي من شأن المال, ويحرك غريزة الناس تجاهه من خلال الأفلام, أو القصص, أو المقررات الدراسية, ويحسن, ويشوق في الأذهان اقتناء المال بغض النظر عن الأسلوب, أو الطريقة التي يسلكها الفرد، وهذا ما كرسته الرأسمالية المتطرفة بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة, مسقطة بذلك حواجز الحلال, والحرام, والشبهات, ومعززة الاندفاع للحصول عليه مهما كانت النتائج المترتبة, وبالمثل يكون التعامل مع غريزة الجنس حيث يتم إعلاؤها, وإثارتها بمختلف الطرق والأساليب.
إن أزمة المال يمكن ألا تحدث لو أن الفرد وجد في محاضن التربية, والتعليم ما يغرس في ذاته القيم المناسبة للتعامل مع غريزة التملك بحيث إن هناك حدوداً شرعية وقيمية وأخلاقية لا بد من مراعاتها عند التعامل مع المال. أزمة المال جاءت بفعل تربية أسقطت من حساباتها الآخرين وحقهم في الحياة, وأمعنت في تجذير حب المال, والسعي لاقتنائه بغض النظر عن الأسلوب, والطريقة, وهذا ما حدث بالفعل، حيث الجشع المتناهي الناتج من عقلية تربت على حب الذات والذات فقط انتهت إلى إطفاء المشاعر الإنسانية واستماتة في الحصول على المال. إن الأوعية التربوية بنشاطاتها كافة قادرة على توجيه غريزة التملك, ولا أقول قتلها أو إطفاءها، فهذا لا يمكن فعله, وليس هو المرغوب، لأن عمارة الأرض مرتبطة بحب المال, ولكن بالقدر الذي يشعر فيه الفرد بحقوق الآخرين, ويحترمها, ولا يسعى لاختلاق الحيل القانونية التي يبرر من خلالها ممارساته الخاطئة.
إن الأفراد الزاهدين في الحياة أو المؤثرين في غيرهم، تشكلت شخصياتهم من خلال أنشطة وفعاليات تربوية، ما يعني أن إعادة تشكيل الفرد ممكنة متى ما تم توظيف الأسس العلمية في هذا الشأن.
إن المؤسسات التربوية يمكنها أن تفعل الكثير سواء في الشأن المالي أو غيره، وذلك بإعادة صياغة البرامج بالشكل الذي يوجد الشخصية المتزنة المنضبطة بأهداف وغايات المجتمع ذات الطابع الإنساني, بحيث لا يكون حب المال أو غيره على حساب الجوانب الأخرى، ولا يكون على حساب القيم الإنسانية التي يجب أن تحكم علاقة الناس بعضهم ببعض.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي