من ينعش الاقتصاد .. الأغنياء أم الفقراء؟
هناك دائماً جدل في مجال السياسة الاقتصادية حول محور النمو الاقتصادي: هل هو الفرد أم قطاع الأعمال؟ فمن يؤيد أن الفرد هو محور النمو يؤيد أيضاً سياسات إنعاش كل ما له علاقة مباشرة بزيادة مستوى دخل الفرد. فزيادة دخل الفرد ستؤدي إلى زيادة قدرته الاستهلاكية ومن ثم إنعاش قطاع الأعمال التي ستؤدي في النهاية إلى زيادة معدلات التوظف. أما من يرى أن محور النمو هو قطاع الأعمال فهو يؤيد تحفيز النمو الاقتصادي من خلال التحفيز المباشر لهذا القطاع بكل الوسائل الممكنة ومن ضمنها التخفيضات الضريبية.
وهذا هو مصدر الاختلاف بين السياسات الاقتصادية الأمريكية لكل من الجمهوريين الذين يرون أن تحفيز النمو الاقتصادي يأتي من خلال تحفيز قطاع الأعمال، بينما يرى الديمقراطيون أن تحفيز النمو يأتي من خلال زيادة مستوى دخول الأفراد. هذا الخلاف أيضاً كان حاضراً بعد تولي بيرنانكي رئاسة "الاحتياطي الفيدرالي" لتقرير إذا ما كان ترجيح كفة مخاطر التضخم لتقرير سياسة سعر الفائدة أهم من أثر أزمة الرهون العقارية في النمو الاقتصادي.
حيث استمر "الاحتياطي الفيدرالي" خلال تلك الفترة في رفع سعر الفائدة واضعاً في أولوياته محاربة التضخم ومقللاً من أثر ذلك في تكاليف الاقتراض المتغيرة للرهون العقارية. ثم ما إن بدأت آثار أزمة الرهن العقاري في الانتشار إلى القطاعات المالية الأخرى، حتى بدأ "الاحتياطي" بإجراء تخفيضات كبيرة في سعر الفائدة لدعم الأسواق والمؤسسات المالية. هذا التحرك غير المتوازن دليل على أن "الاحتياطي الفيدرالي" الأمريكي نفسه يؤمن بأن تحفيز النمو يتم من خلال الحفاظ على نمو قطاع الأعمال لا من خلال المحافظة على مستويات دخول الأفراد واستهلاكهم.
وبالطبع واجه ذلك انتقاداً كبيراً سواء من الساسة أو المحللين الاقتصاديين أومن العامة أنفسهم الذين رأوا أن "الاحتياطي الفيدرالي" لم يوفق في تقرير سياسته بشأن سعر الفائدة التي ظهرت وكأنها فقط حماية للأغنياء من ملاك شركات قطاع الأعمال. وحين لم يكف ذلك التدخل من "الاحتياطي الفيدرالي" شجع بيرنانكي الرئيس الأمريكي والكونجرس على تقديم إعفاءات ضريبية للأفراد تتمثل في شيكات معادة من حصيلة الضريبة لكل مواطن أمريكي على أمل أن تسهم في زيادة استهلاك الأفراد ومن ثم إنعاش الاقتصاد الأمريكي.
ما مثل تحولاً في تفكير رئيس "الاحتياطي الفيدرالي", الذي يبدو لي أنه أدرك أن محور النمو الأساسي ليس قطاع الأعمال بل الأفراد خصوصاً في اقتصاد كاقتصاد الولايات المتحدة. والمحافظة على هذه القدرة الاستهلاكية المعتمدة بشكل كبير على الاقتراض سيسهم في إنعاش قطاع الأعمال من جهة، ومن جهة أخرى سيحمي المؤسسات المالية والاقتصاد ككل من مخاطر تعثر السداد في حالة تأثر القدرة الاستهلاكية للأفراد ومن ثم عدم تمكنهم من سداد التزاماتهم المالية التي تتوزع بين قروض الرهن العقاري والمصروفات المدفوعة على بطاقات الائتمان.
لكن هذا التحول جاء متأخراً جداً حيث بدأت إفلاسات الأفراد بالتأثير في المؤسسات المالية التي أقرضتهم ومن ثم انتقلت إلى السندات المدعومة بهذه القروض, وبالتالي إلى كل مؤسسة تتعامل بمثل هذه القروض. أي أن إنهاك الفرد وتخفيض قدرته الشرائية أو تحميل هذه القدرة الشرائية أكثر مما تحتمل من خلال إقراض ضعيفي الملاءة الائتمانية، كل ذلك كان السبب وراء الأزمة المالية الحالية. وكل ذلك يرجع في الأساس إلى ترجيح مبدأ تحفيز النمو من خلال تحفيز قطاع الأعمال سواء بالتخفيضات الضريبية أو بإطلاق حريتهم في القطاع المالي وبتخفيف الأنظمة والتشريعات الرقابية المتعلقة بالنشاط المالي.
هذا الجدل عاد مرة أخرى إلى الساحة عند تقرير خطة الإنقاذ للمؤسسات المالية بقيمة 700 بليون دولار. الخطة مقررة لإنقاذ المؤسسات المالية، لكن ماذا عن الأفراد؟ ألم يستحق الأفراد الذين خسروا مدخراتهم تنفيذ خطة مماثلة لانتشالهم من الأزمة التي مرت بهم؟ وبافتراض أن الانتشال تم للأفراد من البداية فهل ستكون هناك حاجة إلى خطة للمؤسسات المالية؟ الآن هناك حاجة إلى خطتين: واحدة للمؤسسات المالية وأخرى للأفراد. ومن سيدفع تكاليف هذه الخطة؟ طبعاً الأفراد.
هذا التناقض أو بالأصح عدم التوازن في النظر إلى محفزات النمو يتأثر بالطبع بعوامل سياسية. إذ يمثل قطاع الأعمال قدرة ضاغطة ومنظمة على صانع السياسة الاقتصادية، بينما لا يتوافر الأمر بالنسبة للأفراد. لكن الأزمة المالية الحالية أظهرت بشكل جلي أنه حتى وإن جنى قطاع الأعمال فوائد انحياز السياسة الاقتصادية لمصلحته، إلا أنه سيدفع الثمن ولو بعد حين. ما يعني أن الرؤية القصيرة المدى لجني المصالح على حساب الفرد المستهلك ستؤدي في النهاية إلى كارثة ستطول آثارها قطاع الأعمال نفسه.
بولسون وبعد أن صرف قرابة نصف خطة الإنقاذ المالي، يرى الآن أنه من الضرورة أن يخصص جزء من هذه الخطة لدعم الأفراد. والسبب في ذلك - حسب رأيي - أنه يخشى أن يطول التدهور الحالي في القدرات الشرائية للأفراد قطاع البطاقات الائتمانية, التي ينذر تأثرها بكارثة تتجاوز الرهن العقاري نفسه. ومرة أخرى أقول إن هذا التحرك يأتي أيضاً متأخراً جدا, إذ بدأ كثير من الأفراد في الامتناع عن السداد لارتفاع تكاليف تلك البطاقات الائتمانية. وهنا فإن هذا درس يحتم إعادة النظر في تلك السياسات التي تفضل التعامل مع الأزمات بناء على تأثيرها في قطاع الأعمال لا في الأفراد الذين هم المحور والمرتكز الحقيقي للنمو الاقتصادي.