مصير العالم بين اللطيف والشرير
ناقشت في مقال الأسبوع الماضي أحد أبرز مبادئ الدبلوماسية الدولية، وهو مبدأ "تهاوي الخدمات"، وفي هذا المقال سوق نتطرق إلى مبدأ آخر يطلق عليه مبدأ "الفتى الطيب والفتى الشرير" كي نتعرف على الآلية التي تدار بها الانتخابات الأمريكية، التي في ضوئها يتم اختيار الرؤساء الأمريكيين.
ولفهم حيلة "الفتى المهذب والفتى الشرير" أو كما يطلق عليها أحيانا "الرجل المهذب والرجل العنيف" سنستعين بالمشهد الأول من القصة الشهيرة "الآمال العظيمة" لـ "تشارلز ديكنز"، الذي جعل بطلها الصغير "بيب". صور "ديكنز" هذا الطفل وهو في المقابر عندما خرج عليه رجل ضخم، مرعب، هارب من العدالة والأغلال في قدميه. وقد وقع الرجل في حيرة، فقد كان يريد أن يدفع الصغير كي يفك القيود من قدميه وفي الوقت نفسه لا يريد إخافته حتى لا يتسمر في مكانه من الرعب أو يهرع إلى البلدة لإبلاغ الشرطة. لذا لجأ المتهم دون وعي منه إلى حيلة "الفتى المهذب والفتى الشرير" وقال للطفل بعد أن سأله عن اسمه "أريد أن أخبرك يا "بيب" أنني أحبك ولن أتعرض لك بسوء، ولكن لي صديق مختبئ قريب من هناء وهو عنيف وأنا الوحيد القادر على كبح جماحه، فإن لم تساعدني على التحرر من هذه القيود فسيُلحق بك الأذى". وهذه الحلية عادة ما تستخدم عن طريق شخصيتين مختلفين، الأولى تجيد اللطف والثانية تجيد العنف، إلا أن هذا المتهم حسب قصة "ديكنز" قد استخدم كلا الصفتين ببراعة في شخصية واحدة ويبدو أن الموقف كان يحتم عليه ذلك.
ويُستخدم هذا المبدأ عادة في التحقيقات الأمنية في مخافر الشرطة، وعند البيع والشراء، وتسويق السلع والخدمات، ومن قبل بعض القادة العسكريين، ولكنه أكثر انتشاراً في مجال السياسية والدبلوماسية. وفي هذا المقال نريد أن نعرف كيف تستفيد أمريكا من هذا المبدأ وتوظفه لاختيار رؤسائها.
لو عدنا إلى الوراء قليلا وأخذنا عينة الرؤساء الأمريكيين من عهد "كارتر" إلى الآن، فإننا نستطيع أن نصنفهم وفقا لهذا المبدأ إلى التالي: "كارتر" يتقمص شخصية الرجل المهذب، بينما "ريجان" يمثل الرجل العنيف، "كلينتون" يمثل الشخصية المهذبة بينما "بوش الابن" يبرز الشخصية العنيفة. هل أتى هذا الترتيب بمحض الصدفة؟ لا أظن! فالحقائق الإحصائية والموضوعية التي بين أيدينا تثبت أن اليد التي تحكم أمريكا تستخدم هذا المبدأ في تعيين رؤسائها. ولو صدقنا بوجود هذا المعيار فيمكننا تحديد نمط شخصية "أوباما" بأنها مهذبة ومن سيأتي بعده سيتقمص شخصية الفتى الشرير.
وقد فضح هذا الأمر الرئيس الأمريكي "كارتر" عندما شرع في تطبيق حيلة "الفتى المهذب والفتى الشرير" مع الرئيس الإيراني "آية الله خميني" قبل دخول "ريجان" البيت الأبيض عندما أراد تحرير رهائن موظفي السفارة الأمريكية في طهران في تشرين الثاني (نوفمبر) 1980. قال "كارتر" لـ الخميني "لو كنت مكانك لسعيت لإنهاء هذا الأمر حتى لا تعرض نفسك لخطر التعامل مع الفريق الجديد، فماذا تنتظر منهم؟ الرئيس ممثل راعي البقر القديم ، ونائبه كان رئيساً للمخابرات الأمريكية، ووزير الخارجية "ألكسندر هيج"، الذي أراه أشد جنونا من الإنجليز".
و لم يكتف كارتر بهذا، بل أوعز إلى "ريجان" بتقمص شخصيه الشرير. فقال "ريجان" لـ الخميني "لو كنت مكانك لسعيت إلى التوصل إلى حل مع "كارتر" فهو رجل لطيف، وأنا على ثقة من أن موقفي حينما أصل إلى البيت الأبيض حيال هذه القضية لن يعجبك". وبالفعل أطلقت إيران سراح الرهائن صبيحة اليوم الذي دخل فيه "ريجان" البيت الأبيض، رغم أن إيران كانت تعرف مسبقا هذه الخدعة إلا أنها فضلت الجانب السلمي حتى لا تزج بنفسها في صراع ليس من أولوياتها. ولو قدر لـ" كارتر" أن يمضي أربع سنوات أخرى في البيت الأبيض لبقي الرهائن الأمريكان طول هذه الفترة ضيوفا على الإيرانيين.
ورغم تباين شخصيتي "كارتر" و"ريجان" إلا أن أهدافهما واحدة ويختلفان فقط في آليات التنفيذ. كما أن جميع الرؤساء الذين رشحوا لإدارة البيت الأبيض يسعون لتحقيق هدف واحد من خلال تنفيذ استراتيجيات محددة سلفا وتطوع أنماط شخصياتهم لتحقيق ذلك.
والذي نراه أن المرحلة المقبلة تحتاج إلى اللطف أكثر من العنف لتوجيه بعض الخلل في الاستراتيجيات الأمريكية وهو ما يسمى "التكتيك"، فترشيح "أوباما" ليس إلا علاجا واصطلاحا لخلل في الاستراتيجية الأمريكية، حيث بالغ "بوش الابن" في تقمص الشخصية العنيفة، ما أدى إلى خروج العربة عن مسارها، وإذا أصلح "أوباما" الخلل في نهاية فترته الأولى فسيخلفه في رئاسة أمريكا رئيس شرير على غرار "بوش الابن" أو "ريجان"، أما إذا كان الأمر يحتاج إلى مزيد من اللين فسيفوز في التجديد "أوباما" لفترة رئاسية أخرى. الذي يهمنا من هذه المعطيات أن اللطف سيسكن البيت الأبيض طالما بقي "أوباما" رئيساً.