إدارة أزمة سوسة النخيل الحمراء تحتاج إلى متخصصين وليس كتاتيب
يتردد الإنسان في الكتابة عن موضوع ما خصوصاً في قضية شائكة وأطرافها متشعبة. لقد تحدث الكثير عن شجرة النخيل بمختلف خصائصها، لكن القليل كتب عن قضية تؤرق مربيها فقد اقتصر التطرق إلى إحدى أهم آفاتها ألا وهي سوسة النخيل الحمراء فقط بشكل دعائي أو ترويجي. ومن خلال مراقبتي للصحف اليومية أجد القليل ممن ناقش هذه المشكلة بطريقة أكثر موضوعية. فأنت تعلم يا سيدي القارئ أن هناك فرقاًً بين الإعلام والإعلان (لا تقل إن الفرق هو حرف النون), فالمقالات التي تطرقت إلى مشكلة السوسة (سوسة هانم - كما أطلق عليها أحد الباحثين) كانت أغلبها على شكل إعلانات تحذيرية وليست تثقيفية.
شدني في الآونة الأخيرة مقالات الدكتور محمد حامد الغامدي في جريدة اليوم (الأعداد رقم 12868، 12861 و12854 لأيام الأحد 7/9/1429هـ، 30/8/1429هـ و23/8/1429هـ) حول إزالة النخيل المهمل وطرق علاج المشكلة بمشكلة أخرى حسب قوله. إن الكاتب حين نشر مقالة ضد إزالة النخيل المهمل منذ 14 سنة في وقت كان التكتم الإعلامي عن هذه الحشرة في أوجه, كان يملك الشجاعة الكافية لدق ناقوس الخطر, ومع ذلك لم يكن لمقالاته صدى كبيرا لمناقشته وطرح الحلول الجذرية لها بل كانت نظرية "طنش تعش" هي السائدة.
أعتقد أنه يجب على وزارة الزراعة أن تستفيد ممن حولها وأن تدعم الحوار البناء وتحترم الرأي الآخر خصوصاً أن هذه المشكلة ليست مقتصرة فقط على وزارة الزراعة بل خطر يواجهه كل إنسان يعيش على تراب مملكتنا. إن ما قاله الغامدي في مقالته "نحر البيئة" لا يسعني أن أضيف على ما نشره بخصوص لجنة إزالة النخيل المهمل أما مقالة "العاجزون" فإنني أتفق معه في تساؤله عن إهمال نخيل الشوارع وإزالته, لا بد أن نتساءل عن كيفية وصول هذا النخيل المصاب في شوارعنا في المقام الأول . ولعل أكبر مثال حي على "الفوضى الخلاقة", في منطقة جنوبي شرق الأحساء "خط قطر" حيث كانت خالية من الإصابة بالسوسة, ولكن بعد إنجاز أرصفة الشارع في المنطقة وزراعتها بأشجار النخيل من قبل مقاول ما, اكتشف إصابتها بالسوسة. وقد وصلت السوسة أيضا إلى حرم جامعة الملك فيصل, خاصة أن الجامعة في مرحلة إعمار وإنماء, حيث تم زراعة الحرم الجامعي بأشجار نخيل مصابة من قبل أحد المقاولين. وقد وصل معدل الإصابة نحو 60 في المائة من النخيل المزروع. لذا لا بد أن تتدخل وزارة الزراعة في وضع المعايير والضوابط الزراعة النخيل المستخدم من قبل البلدية أو المقاولين. وكذلك لابد أن يكون دور الوزارة أكثر فاعلية خصوصا أن بلدنا الحبيب في مرحلة نمو مطرد والذي يتطلب زراعة نخيل على نطاق واسع. من المعلوم أن نسبة الإصابة بالسوسة على النخيل بين عمر 6 و15 سنة تصل إلى 75 في المائة, 25 في المائة منها على فسائل النخيل. وبسبب خطورة هذه المشكلة يجب على الحجر الزراعي الداخلي أن يكون ذا سلطة أكبر في التعامل مع هذا الخطر!!!, وليس من العيب إعادة النظر في تقييم معاييرالحجر الزراعي الحالي ورفع مستوى العاملين فيه حيث إنهم العيون التي تراقب كل عابث بنخيلنا.
#2#
إن حرق النخيل المصاب لا يعد الحل الجذري. لذا أتفق مع الدكتور الغامدي بأن الحل ليس الهروب من خريطة الطريق في مكافحة سوسة النخيل الحمراء خاصة أنه لم يتم اختبار وتجربة الحلول الأخرى, أما إذا كانت الفكرة في حل المستعصيات على وزن (آخر العلاج الكي) فهذا قصور من الجميع وأنا منهم. من خلال عملي كباحث في مجال وقاية النبات في كلية العلوم الزراعية والأغذية – جامعة الملك فيصل. كان لابد أن نحرك المياه الراكدة وأن نناقش المشكلة بصوت عال علنا نضيف شيئا فيه مصلحة للوطن ونخيل هذا الوطن. فقد كان لنا تواصل مع هذه المشكلة حيث تم إنشاء وتطوير موقع في شبكة الإنترنت, يتحدث عن سوسة النخيل الحمراء وخطرها الاقتصادي, ومنه أصبح الموقع رافداً لكثير من الباحثين والمهتمين بهذه المشكلة على مستوى العالم. كما يعد هذا الموقع الوحيد على مستوى العالم في تحديد ومعرفة ومراقبة الإصابة بسوسة النخيل الحمراء وانتشارها الجغرافي www.redpalmweevil.com.
تم اكتشاف أول إصابة بسوسة على نخيل التمر في المملكة في محافظة القطيف في المنطقة الشرقية في بداية عام 1987م (جماد الأولى 1407هـ), وانتشرت الإصابة بعد ذلك في مختلف مناطق المملكة بسبب نقل الفسائل المصابة ومنه أصبحت هذه الحشرة من أخطر الآفات التي تهدد نخيلنا اليوم. ومع ذلك ورغم أننا في الثلث الأخير من عام 2008 مازالت هذه الحشرة تؤرق المزارعين والقائمين على مكافحتها. ترى ما السبب؟
#3#
من خلال الدارسات والأبحاث التي تم إجراؤها والمؤتمرات التي عقدت عنها نجد أن القليل من يملك مفهوم التعايش مع هذه الحشرة رغم أن هذا مطلب قد دعا إليه الدكتور الغامدي في إحدى مقالاته قبل 14 سنة, لا يمكن القضاء عليها أو استئصالها كما قال البعض في الوقت الراهن. المنظمات الدولية العالمية لم تستطع القضاء على البعوض الناقل لمرض الملاريا ولكن استطاعت أن تحد من خطورتها بإدارة هذه المشكلة بطريقة رشيدة. لذا سنسير معا على خريطة الطريق في مكافحة سوسة النخيل الحمراء, علنا نجد الخلل والحل اللذين يرشدانا إلى نهاية الطريق مع هذه الحشرة التي تهدد نخيلنا الذي تربينا حوله.
ففي منتصف الثمانينات "أيام الطفرة" كما سُميت آن ذاك لم يكن هناك حجر زراعي على كل ما يتم استيراده من النباتات إلى المملكة بسبب ضعف هذا القطاع. فقد كانت المشاتل الموجود قرب محافظة القطيف تستورد الآلاف من أشجار النخيل خاصة نخيل الواشنطونيا دون رقيب أو حسيب مع أن هذه المشاتل معروفة لدى وزارة الزراعة. ومن هنا دخلت سوسة النخيل الحمراء حيث كان طريقها الأول على خريطة المملكة.
حاول المهندسون الزراعيون في المحافظة التصدي لهذه الشركات لكن دون جدوى بسبب اليد الطولى لهذه الشركات. بل إن أحد التجار قال لأحد المهندسين "نحن نصدر نخيل الواشنطونيا إلى جميع أنحاء المملكة وأنت تتكلم عن السوسة". وأنا أجزم أنه لا يفقه ما يقول. هكذا كان للتجار الدور الأول في نشر السوسة في جميع أنحاء المملكة بسبب عدم المبالاة وفكرة "أن التجارة شطاره!!". فقد نسي أن مملكتنا الحبيبة تحتاج إلى رجال مخلصين ليس إلى تجار لا عقل لهم. كما أن صاحب القرار لم يتخذ الإجراء المناسب حيال هذه المشكلة لأسباب غير معروفة.
كثرت الخطابات والتحذيرات بين ملفات الصادر والوارد حتى كادت تضل عن خريطة الطريق. ثم تفاقمت المشكلة ووصلت إلى الصحف وأصبحت رأيا عاما خصوصا في منطقة الإصابة. وكثرت الاجتماعات تلو الاجتماعات حتى أصبحت أجندة ألاجتماعات لا يوجد فيها سوى "متى سوف يعقد الاجتماع المقبل؟" وقد خرج أحد المسؤولين آن ذاك عن السرب وناقش المشكلة بطريقة موضوعية وعلمية في مثل هذه الظروف وقال "إن أفضل حل هو استئصال وحرق نخيل المنطقة المصابة بالسوسة بالكامل وتطبيق حجر زراعي على هذه المنطقة ومن هذا المنطلق يمكن القضاء عليها تماماً قبل انتشارها إلى مناطق أخرى من المملكة ومنع استيراد هذا النوع من النخيل إلا بعد الفحص من قبل الحجر الزراعي".
ووجد أصحاب القرار أن هذا الأمر خطير ولا يمكن تنفيذه ومنه دخلت الفكرة الأدراج ولم تلق رواجاً في ذلك الوقت ولكن الآن تم حرق مليون نخلة بسبب هذه الحشرة. أما الحشرة فطريقها كان واضحا وجليا بمساعدة النقل لفسائل النخيل على خريطة المملكة.
فانتشار السوسة لم يكن بسبب طيرانها حيث إنها لا تستطيع الطيران لأكثر من كيلو مترين تقريبا. وأعتقد أن نقل الفسائل وتداولها من غير رقيب كان هو السبب الأول. هنا نجد أنفسنا نسلط الضوء على الخلل الأول في مكافحة هذه الحشرة ألا وهو سوء الإدارة من أصحاب القرار في مواجهة هذه المشكلة وعدم تفعيل دور الحجر الزراعي الداخلي والخارجي. إن من أكبر المشاكل التي تواجه العالم في حل أي مشكلة هو سوء الإدارة وما مشكلة إعصار كاترينا ببعيد, ففي عام 2005 وضح جليا كيف سبب سوء الإدارة وعدم اتخاذ القرار المناسب السريع موت الكثير من أرواح البشر وتدمير ممتلكاتهم. إن إدارة الكوارث والمشاكل أصبح علماً قائماً بذاته وليس خطابات الصادر والوارد حلا للمشكلة, فنحن قد انتهينا من عصر الكتاتيب يا سادة ويجب إدارة مشكلاتنا التي لدينا بأسلوب علمي واستراتيجي. فإن أزمة الحج "الجمرات" لم تحل إلا بواسطة مهندسين متخصصين وأصحاب قرار سريع.