رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


هل يمكن تحصين الاقتصاد السعودي ضد تداعيات تراجع أسعار النفط؟

يعد التذبذب في أسعار النفط سمة مميزة لهذه السلعة أسوة بغيرها من المنتجات السلعية الأخرى كالمعادن والبتروكيماويات وغيرها التي تمر بدورات اقتصادية يتذبذب خلالها السعر بهامش كبير وبفترات قد تطول أو تقصر وفقا لمتغيرات الأسواق العالمية. ويتجلى هامش التذبذب الكبير في أسعار النفط في أوضح صوره من خلال متابعة أسعار النفط في العقد الماضي، حيث وصل أقل سعر لخام تكساس الخفيف إلى 12 دولارا للبرميل عام 1998م وأعلى سعر إلى 147 دولارا للبرميل في تموز (يوليو) 2008. وكنتيجة مباشرة لتذبذب أسعار النفط خلال العقود الثلاثة الماضية، تذبذبت مساهمة هذا القطاع في الناتج الإجمالي المحلي للمملكة، فوصلت إلى أعلى مستوياتها عام 1974م حين بلغت 75 في المائة، وتراجعت إلى أدنى مستوياتها عام 1994م حيث بلغت 29 في المائة بسبب تراجع أسعار النفط في تلك السنة إلى 15 دولارا للبرميل.

أرقام ودلالات
يؤدي التذبذب في أسعار النفط إلى تذبذب الإيرادات الحكومية، الذي بدوره ينعكس على مستويات الإنفاق الحكومي. وفي الغالب تلجأ الدول النفطية، ومنها المملكة، خلال فترات تراجع أسعار النفط إلى الإبقاء على مستويات إنفاق عالية متجاوزة الإيرادات، مع تغطية العجز من خلال اللجوء إلى الاحتياطي العام أو الاقتراض الداخلي أو الخارجي. فعلى سبيل المثال اتسمت معدلات الإنفاق الحكومي في المملكة خلال العقد الممتد من 1995 إلى 2005م بدرجة عالية من التذبذب (راوحت بين 135 عام 1995 إلى 280 مليار ريال عام 2005) تتناسب مع هامش التذبذب في أسعار النفط باستثناء عامي 2003 و2005 اللذين حصل خلالهما توازن بين الإيرادات والنفقات الحكومية بمستويات بلغت 215 و280 مليار ريال على التوالي. أما خلال الفترة المتبقية من ذلك العقد فيلاحظ ميلان الكفة باتجاه النفقات على حساب الإيرادات، ما أسفر عن حصول عجوزات بلغت نسبتها إلى الإيرادات: 11 في المائة في عام 1995، 10 في المائة عام 1997 م، 36 في المائة عام 1999، و22 في المائة عام 2001.
وبطبيعة الحال فإن هذا التذبذب والعجز المترتب عليه في فترات تراجع الإيرادات الحكومية انعكس سلبا على جميع أوجه الإنفاق الحكومي، ومن ضمنها عدد من القطاعات الحيوية التي تعتبر من بين أهم المعايير في تحديد تنافسية البيئة الاستثمارية وتعتمد عليها قطاعات اقتصادية إنتاجية كالصناعة والزراعة، وفي المقدمة منها: التعليم والتدريب (التنمية البشرية)، البنية التحتية، النقل والاتصالات، والصحة والتنمية الاجتماعية.
ويبين الشكل البياني أثر التذبذب في أسعار النفط على مستويات الإنفاق الحكومي في المملكة على تلك القطاعات خلال الفترة الممتدة بين 1981 و2005. وخلال هذه الفترة تذبذب سعر النفط صعودا ونزولا ما بين 34 دولارا للبرميل عام 1981 و54 دولارا للبرميل عام 2005، مرورا بعقد التسعينيات الذي تراوح فيه سعر برميل النفط بين 12 و19 دولارا للبرميل، الأمر الذي انعكس سلبا على حجم الإنفاق الحكومي على تلك القطاعات.
والملاحظ أن عددا من تلك القطاعات ارتفع فيها حجم الإنفاق الحكومي بتعافي أسعار النفط منذ عام 2003م، فيما تراجع حجم الإنفاق الحكومي على بعضها حتى في ظل التحسن الملموس في أسعار النفط. فلقد ارتفعت مخصصات قطاعي التعليم والموارد البشرية والصحة والخدمات الاجتماعية قياسا بمستواهما في عام 1981م، حيث بلغت نسبة الزيادة في مخصصات قطاع التعليم بنهاية هذه الفترة 166 في المائة (مرتفعة من 26.9 مليار ريال إلى 69.9 مليار ريال)، وكذلك الحال بالنسبة لمخصصات قطاع الصحة التي زادت بنسبة 135 في المائة (من 13.7 مليار ريال إلى 23 مليار ريال). وعلى العكس من ذلك سجلت مخصصات قطاعي النقل والاتصالات والبنية التحتية خلال تلك الفترة نموا سالبا وبنسب وصلت إلى (- 76 في المائة و-77 في المائة) للقطاعين على التوالي، حيث تراجع الإنفاق الحكومي على قطاع النقل من 35.3 مليار ريال عام 1981م إلى 8.6 مليار ريال عام 2005م وتراجعت مخصصات البنية التحتية من 14.1 مليار ريال عام 1981م إلى 3.3 مليار ريال عام 2005 حسبما موضح في الجدول (1).
ووفقا لهذه البيانات، فإن قطاع البنية التحتية يعتبر (الخاسر الأكبر) خلال تلك الفترة. وغني عن القول إن شح الإنفاق على هذين القطاعين أفرز تأثيرات سلبية في النمو في القطاعات الإنتاجية وفي المقدمة منها القطاع الصناعي.
#2#
صناديق الاستثمار: هل تشكل الحل؟
في ظل مثل هذه الأوضاع يبرز السؤال التالي: هل من الممكن تحصين الاقتصاد من انعكاسات التذبذب في أسعار النفط؟ ويبدو هذا الأمر صعبا إلى حد ما، لأن قطاع النفط يشكل العمود الفقري للاقتصاد السعودي، وهو سيبقى كذلك في المستقبل، وهذا عائد لكون المملكة تمتلك حصة الأسد من حجم الإنتاج العالمي والاحتياطات العالمية المثبتة، وبالتالي فإن دورها في تأمين الطلب العالمي المتنامي على النفط سيتزايد في السنوات والعقود المقبلة، وسينعكس ذلك على استمرار دور النفط كلاعب رئيس في اقتصاد المملكة. وعلى الرغم من هذه الحقيقة، من الممكن والواجب في الوقت ذاته العمل على تحصين الاقتصاد من تذبذب أسعار النفط عبر تبني سياسات اقتصادية محاورها:
1. تنمية الصناعات ذات القيمة المضافة العالية والخدمات المرتبطة بها.
2. تنمية الصناعات المعرفية المرتبطة بالميزة النسبية المتاحة في المملكة.
3. بناء الاحتياطات المالية وتنميتها في أوعية استثمارية داخل المملكة وخارجها.
وفي هذه المقالة سيتم التركيز على المحور الثالث (بناء الاحتياطات المالية وتنميتها). وفي هذا الشأن يمكن القول إن المملكة انتهجت خلال السنوات الثلاث الأخيرة سياسات اقتصادية محافظة تمثلت في توجيه فائض الإيرادات لبناء احتياطات كبيرة من الأصول الأجنبية وصلت بنهاية أيلول (سبتمبر) الماضي إلى نحو 438 مليار دولار تمثل أكثر من ضعف مستواها قبل عامين. ويقدر أن الجزء الأعظم من هذه الاحتياطات (تقدره بعض المصادر بنحو 85 في المائة) مستثمر بالدولار الأمريكي في سندات الخزانة الأمريكية قصيرة الأجل وهي الأقل مخاطر والأقل أرباحا في الوقت ذاته.
ولعله من المناسب في هذا السياق التطرق إلى سعي عدد من الدول الغنية بالثروات الطبيعية، ومن بينها الدول النفطية، لتقليل آثار تذبذب أسعار النفط من خلال إطلاق صناديق متخصصة يطلق عليها Oil Stabilization Funds، تقوم على استثمار فوائض عائدات النفط لتحصين الموازنة العامة والاقتصاد تجاه تذبذب أسعار النفط بحيث يلجأ لها لسد العجز في السنوات العجاف. وتعمل تلك الصناديق وفق مبدأ أن الثروة النفطية عند استخراجها من باطن الأرض تتحول إلى ثروة مالية يتم استثمارها في أوعية استثمارية ذات مخاطر متدنية وعوائد عالية على المدى الطويل. ويبين الجدول رقم (2) عددا من صناديق دعم استقرار الاقتصادات النفطية في كل من النرويج، روسيا، وولاية ألاسكا الأمريكية، وأهدافها المحددة من قبل الحكومات المالكة لها، واستراتيجية الاستثمار في كل منها التي يترجمها التوزيع النسبي لمحافظها الاستثمارية.
وتختلف أغراض تلك الصناديق وأهدافها من دولة إلى أخرى، لكنها تتفق في استراتيجياتها التي تركز على الموازنة بين تحقيق العوائد وتوفر السيولة لتغطية عجوزات الميزانية العامة في بلدانها. لكن في الغالب تتسم تلك الصناديق بوضوح استراتيجية الاستثمار لجهة نسبة تقبل المخاطر والمدى الزمني، وبتركيزها على الاستثمار في السندات أو الشركات المصنفة استثماريا والتي تلبي معايير الإفصاح والمسألة التي تطلبها وكالات التصنيف الائتماني الدولية. وباستثناء الصندوق النرويجي الذي حقق أرباحا تراكمية حقيقية بحدود 8 في المائة على الأصول المستثمرة منذ إطلاقه عام 1994م وحتى نهاية عام 2007، لم تتوافر بيانات عن مؤشرات أداء تلك الصناديق.
#3#
رؤية للدور المستقبلي لصناديق الاستثمار السعودية
من المعلوم أن المملكة أطلقت عام 1971م صندوق الاستثمارات العامة PIF، وحصرت نشاطه في تمويل مشاريع القطاعين العام والخاص داخل المملكة، وتم تفويضه عام 1974م لتملك حصص في الشركات المساهمة. ووفقا لـ "فاينانشيال تايمز"، بلغ حجم التمويل المقدم بنهاية الربع الأول من عام 2008 من الصندوق نحو 59 مليار ريال (15.75 مليار دولار)، وهو مؤشر إلى أن الدور الذي لعبه الصندوق متواضع إذا ما قورن بعمره الزمني.
ونشط الصندوق في السنوات الأخيرة في الاستثمار في مشاريع استراتيجية داخل المملكة في قطاع البتروكيماويات والتوليد المزدوج للمياه والكهرباء IWPP والسكك الحديدية. واليوم تبدو الحاجة ملحة إلى تفعيل دور الصندوق في تمويل مشاريع البنية التحتية التي أصبحت أكثر إلحاحا من ذي قبل نظرا لتراجع مستويات الإنفاق عليها خلال السنوات العجاف ولصعوبة الحصول على تمويل لها من قبل المؤسسات المصرفية المحلية والدولية في ظل الأزمة المالية العالمية. فمشاريع البنية التحتية التي يخطط لتنفيذها بالمشاركة مع القطاع الخاص Private Public Partnership كمشاريع القطارات، شبكة الطرق، الموانئ، المياه، الكهرباء، والمدن الصناعية، تكتسب أولوية في هذا الجانب، ومن شأن عدم تأخرها بسبب جفاف مصادر التمويل العالمية والمحلية المساعدة على تحقيق النمو المستدام الذي يحقق الرخاء في المملكة.
واستكمالا لدور صندوق الـ PIF تم الإعلان في الربع الأول من العام الجاري عن إطلاق صندوق سيادي (سنابل) يدار من قبل صندوق الاستثمارات العامة ويستثمر فوائض العوائد النفطية خارجيا في استثمارات طويلة الأمد. وأعلن وقتها أن حجم الصندوق مبدئيا سيكون 20 مليار ريال (5.3 مليار دولار)، ولكن لم يتم تفعيل الصندوق بعد. ومن هذا المنطلق، من المهم أن يتم صياغة استراتيجية عمل لهذا الصندوق تتسم بالوضوح والشفافية مع التركيز على المحاور التالية:
* تمويل صفقات الاستحواذ للشركات السعودية.
* الاستثمار في أصول الشركات العالمية الرائدة في قطاعات استراتيجية تتسق مع استراتيجيات التنمية الاقتصادية في المملكة لاستقطابها للاستثمار في المملكة، بما يدعم تطوير القدرة التنافسية للصناعات القائمة في المملكة أو المخطط لتطويرها.
* تمويل مشاريع شركات النفط والبتروكيماويات السعودية في الخارج بشروط وتسهيلات تنافسية، مثل مشاريع المصافي والمجمعات البتروكيماوية التي تطورها شركتا أرامكو السعودية وسابك في الصين.
ويعكس التأخر في إطلاق صندوق سيادي مملوك من قبل حكومة المملكة، إضافة إلى صغر حجم الصندوق، السياسة المحافظة التي تبنتها مؤسسة النقد بشأن تكوين صناديق سيادية تستثمر في الأسواق العالمية، وهي سياسة قد يكون لها ما يبررها إذا ما أخذ بعين الاعتبار التقلبات التي تتعرض لها الأسواق العالمية بين فترة وأخرى.
وتأتي الأزمة المالية العالمية لتعمق القناعة بهذه السياسة، في ضوء التقارير التي قدرت حجم الخسائر التي ستمنى بها الصناديق السيادية بنحو 25 في المائة من قيمة أصولها قبل الأزمة المالية الحالية. لكن في المقابل من الواجب التذكير بأن استراتيجية هذه الصناديق قائمة على الاستثمار طويل الأمد، وبالتالي فإن احتمال انتعاش أصول تلك الصناديق يبقى كبيرا على المديين المتوسط والطويل.
خلاصة القول: تبدو الحاجة ملحة إلى تفعيل دور صناديق الاستثمار في التنمية الاقتصادية في المملكة في الفترة المقبلة، على الرغم من الغيوم التي تغطي الأجواء وتحجب الرؤية لدى الكثيرين، لكن ليس لمن يمتلكون الرؤية.
ولهؤلاء تبدو الصناديق ذات السيولة العالية وسيلة لمساعدة الشركات السعودية لاقتناص فرص استثمارية خارج المملكة ذات مردود عال على المديين المتوسط والبعيد. وبموازاة ذلك مطلوب من صناديق الاستثمار السعودية أن تلعب دورا فاعلا في هذه الفترة لتعويض شح التمويل من المؤسسات المصرفية المحلية والعالمية المتاح للمشاريع الاستراتيجية التي تطورها الشركات الحكومية أو شركات القطاع الخاص داخل المملكة وخارجها. والمهم في الحالتين أن تعمل تلك الصناديق وفق رؤية واضحة واستراتيجيات مدروسة وآليات عمل تتسم بدرجة عالية من الشفافية لضمان تحقيق أفضل العوائد للمملكة ولتحصين الاقتصاد الوطني من تداعيات الاعتماد على سلعة ذات أسعار متذبذبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي