الوضع المالي في المملكة ... وكيفية إدارة الأزمة (1 من 2)
لقد خلُص المشاركون في الحرب العالمية الثانية إلى أن السبيل الوحيد للعيش بسلام هو الشراكة الاقتصادية كمحرك أساس للمحافظة على استقرار الشعوب وترابطها، وقد كانت هذه إحدى حسنات تلك الحرب الهوجاء، حينذاك اتفق ممثلو 44 دولة مشاركة فيما عُرف باسم اتفاقية غابات بريتون Bretton Woods، والتي آلت إلى التوصية بقيام مؤسستين ماليتين عالميتين هما الصندوق الدولي” ( IMF) International Monetary Fund “، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير “International Bank for Reconstruction and Development (IBRD)”، بهدف تنظيم وتوفير الاستقرار المالي للنظام العالمي وتشجيع ازدهار التجارة بين الدول الأعضاء.
هذه التوجهات كانت تصاغ بتأييد فكري رأسمالي يخدم مصالح ونظرة الفريق المنتصر في الحرب، حين لعب ممثل كلا من بريطانيا جون ماينارد كينز John Maynard Keynes وممثل أمريكا هاري ديكستر وايتHarry Dexter White في الاجتماعات دوراً كبيراً لترسيخ الفكر الرأسمالي من خلال دمج الاقتصاد العالمي في حلقة بناء مترابطة خدمت الدولار الأمريكي وأعطته ميزة إضافية كوحدة تسعير للذهب.
نما العالم بعد هذه الحقبة على مبادئ الرأسمالية ولعب العامل الاقتصادي دوراً بارزاً في التحكم بالسياسة حتى أصبح العالم وسياسته يداران من خلال الاقتصاد. وبدأت الولايات المتحدة خلال هذه الفترة وفيما عرف بعد ذلك "بالحرب الباردة" سعياً لتوطيد أساسات اقتصادها وهيمنتها السياسية على العالم من خلال تسيير العالم في اتجاه القضاء على القوة المواجهة لها في ذلك الوقت وهي الاتحاد السوفياتي، وقد نجحت في ذلك مع أوائل تسعينيات القرن الماضي.
هذه الحرب الخفية قادت العالم إلى حقيقة مفادها أن قطبا واحداً في العالم هو المسيطر على الاقتصاد والسياسة ويجب أن تكون كل موارد العالم بيده وتحت تصرفه، وهذا القطب الأوحد هو الولايات المتحدة الأمريكية. وبما أن أمريكا وثقت في اقتصادها بما لا يدع مجالاً للشك وبدأت تتصرف للسيطرة على اقتصاديات العالم بفكر استعماري بحت ودون فرض أي رقابة على منتجات الاقتصاد الحر الذي يدعون له، فقد انقلب السحر على الساحر وانكشف المستور في هذا البلد الذي استقطب رؤوس الأموال من كل أقطار العالم وكان الحضن الدافئ لازدهار وانتشار التجارة العالمية. وظهر أن رؤوس الأموال هذه وإدارات الشركات فيها لا تتوانى عن تعظيم أرباحها وزيادتها حتى ولو على حساب أمريكا نفسها، مما قاد إلى ظهور مشكلات مالية وإدارية واستراتيجية عديدة، منها ما يستدعي الحل العاجل ومنها ما لا حل له. كل هذه الأسباب أودت بهذا الاقتصاد للترنح بين الازدهار والانحسار وبين الصعود والهبوط حتى وصل العالم لهذه الدرجة من مراحل التضخم الاقتصادي والحرب الاقتصادية لتصفية الحسابات بين من يجدر وصفهم بـالـ "المتسلقين الجدد" سواء كانوا روسيا أو الصين أو الهند أو حتى الحليف الدائم لأمريكا الاتحاد الأوربي أو غيرها من الاقتصاديات الناشئة.
حتى نعي الدور الذي قامت به أمريكا في حربها الاقتصادية خلال الحرب العالمية الثانية وبعد ذلك على الاتحاد السوفياتي مرورا بكل الحروب التي خاضتها أمريكا حتى حربها الأخيرة على العراق، إنما كانت حروباً اقتصادية في أساسها. والآن وصل الدور لأمريكا نفسها وتكالب عليها الأعداء ما بين ظاهرين وخفيين، وكلا يريد الحصول أو استعادة هيبة سياسية تمكنه من السيطرة على العالم ومصادر الثروة فيه وتنطلق من خلال العامل الخفي وهو الاقتصاد. وهنا أقول إن أمريكا لن تستمر على حالها السابق في السيطرة وفي قيادة العالم حيث بدأ يظهر منافسها القوي والجدير في الوقت نفسه بأساليب حربية جديدة. وخير دليل على ذلك ما يلعبه الاتحاد الأوروبي حالياً بقيادة فرنسا في توحيد الصف ضد الرأسمالية من المنظور الأمريكي، واستقطاب قوى جديدة "مثل مجموعة الدول العشرين" لتكوين حلف اقتصادي سياسي قد يهيئ لرأسمالية بمفهوم أوربي ودولي.
ظهرت دعوات كثيرة في الفترة الماضية تنادي بحلول اقتصادية إسلامية، كما بدأت بعض البنوك الغربية في توفير حلول إسلامية لعملائها حول العالم، إضافة إلى بعض الدعوات من اقتصاديين غربيين ترى في النظام الاقتصادي الإسلامي حلاً لمشكلاتهم الحالية. ولكني أرى أنه ليس من الحكمة ولا السهولة أن يطرح النظام الإسلامي كبديل لحل مشكلة النظام الرأسمالي العالمي، لأنه حتما سيواجه بكثير من المعارضات Resistance ليس لأنه لا يحل مشكلاتهم ولكن لأسباب عديدة لعل أولها أنه قادم من العالم الإسلامي، هذا العالم الذي يُحكم عليه من بقية دول العالم بأنه جزء متأخر علمياً وتنموياً عما وصلوا إليه في حضارتهم الغربية. وهذا كلام كلنا نعلم عدم مصداقيته. والسبب الثاني قلة تناول الحلول المالية الإسلامية بالبحث والدراسة والنشر من قبل المراكز العالمية وكذلك عدم طرح ومناقشة منتجاتها في مؤتمرات عالمية. والسبب الثالث والأهم أنه لا توجد أنظمة إسلامية اقتصادية خالصة في بلاد المسلمين أنفسهم فكيف لنا أن نعرض أو نُقنع غيرنا بما لا نستخدمه أصلاً؟
إن هذه الأزمة المالية التي يمر بها العالم في حال استمرت فسيكون لها آثاراسلبية قد تفوق آثار الحرب العالمية الثانية، والفرق الوحيد أن ضحايا الحرب العالمية الثانية ماتوا بالسلاح وضحايا الحرب الاقتصادية قد يموتون جوعاً. فكثير من الدول الفقيرة، التي تعتمد على المساعدات والدعم الخارجي لن تجد ما يٌقدم لها ولفترات طويلة، أضف إلى ذلك إن نتائج الكساد الذي قد يصيب العالم وأثره في تأخير الاقتصاد العالمي.
هنا قد يتبادر للذهن سؤالا مهم وهو كيف نتأثر أقل من غيرنا؟ والحقيقة أن الإجابة عن مثل هذا السؤال لا تأتي من شخص واحد فقط فهي بحاجة إلى اجتماع عقول المفكرين والاقتصاديين وكل أبناء الوطن للخروج من مأزق الأزمة بأقل الخسائر، صحيح أن المملكة العربية السعودية ـ ولله الحمد والمنة ـ تمر بظروف اقتصادية مستقرة خلال هذه الفترة والوضع المالي مستقر ومتحسن أيضاً، ولكن السؤال ماذا لو حدثت هذه الأزمة في زمن لا نملك فيه هذا الاستقرار؟ لهذا فعلى الكل واجب وطني بأن يقوم بما يحتاج منه الاقتصاد المحلي لتحقيق الاستقرار خلال هذه الفترة الحرجة للوصول إلى بر الأمان بإذن الله. وسنواصل في المقال المقبل الحديث عن هذا الموضوع.