الأزمة المالية: السلبيات والإيجابيات على القطاع الصحي
إن من الطبيعي أن نفكر في تأثيرات الكارثة المالية التي حدثت في أمريكا ومن ثم في أوروبا، بعد أن أخذت أبعادا قد لا نستطيع حسابها أو توقعها بدقة الآن, ولكن مع بداية العام المقبل 2009 سيتبين حجم التأثير خارج هاتين القارتين، بل إن زيادة نسبة الهلع على مستوى العالم ستكون أهم عامل مؤثر في انتشار "زكام أمريكا". المشكلة لا شك أنها خليط بين سياسية وسياسة اقتصادية، حيث أهملت بعض المحاذير ولم تحسب النتائج بدقة فسادت الفوضى إدارات المصارف وبدأت تتداعى في توال غريب من نوعه وليس ببعيد جدا ستبدأ قطاعات عدة تحاكي كيفية الخروج بأقل الأضرار، لأن التأثير بالإيحاء في الغالب يكون أشد وقعا من التأثير المباشر الذي يكون محصورا في نشاط معين أو قطاع معين. قد يعول على قمة الـ 20 بالخروج من هذه الأزمة بما يعين دول القارات الأربع على البقاء متماسكة اقتصاديا، ولكن أعتقد أنه سيكون الاختبار الحقيقي لتوجه الدول إلى حلول مثل هذه وهي التي تناست ـ ولم تنس ـ الأسواق الناشئة وأهملت نموها لتحقيق مآرب خاصة. عموما علينا أن نتحرك في كل اتجاه يجعلنا نستفيد منها في تصحيح المسارات وتوقع المؤثرات كبيرها وصغيرها لنتجنب الدخول في حسابات معقدة تؤثر سلبا في مكتسباتنا خلال السنوات الأربع الماضية.
إن تأثير الأزمة في القطاعات المختلفة لم تتضح معالمه بالضبط، ولكن لنا أن نقول إن القطاع الصحي كان مهملا جدا في حسابات الدول، ولكن ـ بإذن الله ـ سيكون من أكبر المستفيدين من الأزمة، وهذه إيجابية على المنطقة العربية بأسرها والخليجية بالذات. في البداية إذا ما تعاملنا بحذر شديد مع تطورات الوضع, وأعني بذلك "إداريا", لزرع الطمأنينة في أوساط المستثمرين صغارا وكبارا مع فرض رقابة وقائية لحماية المشاريع كافة، فسنحقق ما أكدته جميع الجهات المسؤولة عالميا بسلامة إجراءات وتحركات مصارفنا واستثماراتنا ونظمنا المالية من الشطط.
إن من الطبيعي أن نفكر في من صدم وأصيب بأزمات صحية مفاجئة نتيجة الأزمة وتأثيرها, ولا يمكن أن نستغرب فقد بعض الوظائف التي ستعاد حساب رواتبها والمميزات التي يمكن أن تمنح لكل وظيفة, ولكن أيضا نود أن نتنبه إلى حدوث انخفاض أسعار كبير للتجهيزات والمستلزمات وهذا نعمة لنا كبيرة.
قد أقترح ألا يتوسع المقاولون في حجم القروض لتنفيذ المشاريع قيد التنفيذ أو المستقبلية، فالسير السريع بثقة سيجعل التعاون كبيرا بين المسؤولين في القطاع الصحي والمقاولين للتركيز على تطوير المشاريع الصحية القائمة ورفع كفاءتها للشروع في أخرى بخبرة تتعامل مع ما رصد لها بكل مسؤولية. يفضل أن تؤجل الاستثمارات الخارجية في بناء مرافق صحية والاستعاضة عنها بالتوسع في الصناعة الدوائية للحفاظ على نمو الداخلية بشكل مطرد ومتوازن مع الاستثمارات الخارجية، فالسيولة حاليا هي مربط الفرس وقد تكون الشركات الضخمة بمنأى نوعا ما عن الخطر، فتحاول مداعبة الشركات الصغيرة لتلتهمها، ولكن يمكن لبعض صناع القرار لدينا أن يفكروا في محاورة الصغيرة منها بما يملك من مقومات للنهوض بالصناعة الدوائية عالميا، فيكون لنا نبتا هنا وزرعا هناك. شح السيولة الذي سيؤثر في تطوير التجهيزات الطبية في المرافق الصحية عموما وعلى مستوى العالم سيكون لنا وضعا إيجابيا من حيث تحسين جودة الخدمات ورفع مستوياتها لدرجة تتفق وما نصبوا إليه, ففي أوروبا وأمريكا بدأوا في إعادة جدولة تقديم بعض الخدمات وبالذات العمليات الجراحية والعلاجية المتقدمة والمكلفة والمفاوضات مع شركات التأمين في إحلال الأجهزة وتوقيع أنواع من البوالص بدأت تأخذ منحى البقاء للأحوط.
من وجهة نظر خاصة سيكون ذلك دافعا لنا لفتح بعض التعاقدات الموسمية والمقننة لكوادر متخصصة تشرف أو تقوم بمثل هذه الإجراءات في كثير من مرافقنا وبشروطنا ولو لمدة عامين قادمين، حيث إن ذلك يعد قيمة مضافة إلى الخدمة الصحية بشكل غير مباشر ويمكن أن يكون نواة جيدة لتطوير قدرات أبنائنا بناة المستقبل.
في الواقع يمكن توقع كثير والحديث عن أكثر، ولكن ما يهمنا هو أن نستفيد من "الهلع العالمي" ليكون نقطة انطلاق اقتصادية صحية تدفع بنا إلى مراتب متقدمة في سلم التصنيف العالمي في تقديم الخدمات الصحية المتميزة. حتما سنستفيد من تجارب الدول المتأثرة بشكل مباشر للخروج بتعديل مناسب لسياسات اقتصادات الصحة للحرص على استقرار وديمومة تقديم الخدمة بالمستوى نفسه مع ضبط المصروفات عبر خطط تحسب فيها إصلاح العثرات خلال العامين المقبلين، ولكن نحمد الله على أن وضعنا قد يجعلنا مراجع علمية وعملية في الاقتصاد الذي اعتبر من أقوى الاقتصادات، على الرغم من حداثته. أتوقع أن يجافي النوم كثيرا من الإداريين الصحيين المتمرسين والخبراء، لأنهم يعون أن هناك فجوة لا بد من ردمها بأسلوب محنك، وهي تنفيذ برامج الجودة في المرافق الصحية المختلفة، ولكن يهمنا أيضا أن تتقدم جمعية الاقتصاد السعودي ومؤسسة النقد العربي السعودي بلملمة كل هذه الأفكار، والتنسيق لعقد لقاءات أو طرح أفكار في منتديات تشرف عليها توضح للمجتمع عموما حجم التأثير المتوقع في كل من القطاعات الحيوية المهمة مثل "الصحة" طبعا، "التجارة"، "التعليم"، "الصناعة"، "الطاقة"، و"الزراعة" .. إلخ، حتى نستنير بما لدى الاقتصاديين من توصيات تحقق لنا الاستفادة العظمى من مقدرات هذا الوطن الكريم, والله المستعان.